الذاهب للقتال مع «حزب الله» في سوريا اليوم كان عمره ثلاث سنوات وقت تحرير الجنوب. مع ذلك يهمّ الحزب أنْ يقنعه بأنّ العدو في الحالتين، أصله واحد.
يوماً بعد يوم، يتدفق جيل جديد من لبنان على سوريا، علاقته مع زمن العمل العسكري في جنوب لبنان ومشهدية التحرير لم تعد عضوية، مُعاشة مباشرة، بالحواس الخمس، لكن منقولة له، سواء بذكريات الأهل أو المحيط، أو بالوسائط التقنية، والأهم: بالواسطة التعبوية الحزبية.
هذا الجيل الجديد صار يستلزم نقلة نوعية في خطاب الحزب حول قتاله في سوريا. في البدء كان يقول بأنّها حرب لا يشتهيها، ويشتهي حرباً أخرى، وانه يخوضها اضطراراً، ثم أصبح الاضطرار ضرورة، وصارت الضرورة ذات جاذبية، وتشتهى لذاتها: حرب بين الخير والشرّ يصعب حتى على جبهة الصراع مع اسرائيل أن تقدّم مسرحاً لها بهذا الوضوح. المعادلة بسيطة: المستوطن يستحل أرضك ويهجّرك، والتكفيريّ يستحل دمك طالما لم تنضو تحت رايته. الصراع مع المستوطن على الأرض، والصدام مع التكفيري على الوجود. المستوطن عبثاً يلغيك لأنه أجنبي، ومختلف. التكفيريّ يتكلّم لغتك، ويتزاحم معك على بوتقة من الرموز المشتركة، ويزاحم رموزاً أخرى منافسة لرموزك في الوقت نفسه، اذاً القتال معه أولى، وبعد كل شيء، المستوطن يجيء ويذهب، والتكفيرية تتمادى قرناً وراء قرن. اذاً الحرب معها هي الأصل، والحرب معها غير مرهونة بأجل.
كي يقنع الحزب شبابه بالقتال في سوريا – وكل طرف يجلب مقاتلين الى ساحة قتال عليه ان يتوخى اقناعهم بعض الشيء – عليه أنْ يصطنع لهم ملحمة مشهدية موازية لملحمة تحرير الجنوب. الفارق أنّ ما هو ملحمي في تحرير الجنوب اختلط بما هو واقعي: فبعد كل شيء، كل قرية تحرّرها تعود وتزرعها وتعمرها وتسكنها. وحتى الجليل، الذي أغفلت وعود انتظار تحريره، فهب ان هذا التحرير تحقق، تعود فتزرعه وتعمره وتسكنه. لكن ماذا عن «تلة موسى» وسواها من المواقع على الجبهة السورية؟ هل تستولي على هذه التلة لتزرعها فتعمّرها وتسكنها؟ لا. اذاً؟ بدل العنصر الواقعي الذي كان الحزب يخلطه بالعنصر الملحمي، صار يخلط الملحمي بما هو عبثي أو عدمي: السيطرة على تلة موسى لا بقصد زراعتها أو تعميرها أو سكنها.
من كان عمره ثلاث سنوات وقت تحرير الجنوب ينضم الى الحرب السورية اليوم، ويمّهد لأن ينضم اليها من كان لم يولد بعد وقت التحرير. عمرٌ يمضي. انجاز التحرير لا يكابر عليه، لكنه مخزون يصرفه الحزب في سوريا بشكل يوشك على النضوب بمجرّد ان الفارق بين من حارب ضد اسرائيل ومن يحارب في سوريا ضد السوريين سيتحول أكثر فأكثر الى فارق بين جيلين داخل «حزب الله».
حين يتصل الأمر بحروب الحزب ضد حركة أمل أو تنكيله باليساريين أو جحوده بالوطنية اللبنانية يفضّل الحزب الايحاء بأنه تغيّر وتطوّر. أما حين يتصل الأمر بحرب الحزب ضد الاحتلال الاسرائيلي ثم حربه في سوريا، وفيها تبدّل للموضع الجغرافي للجبهة، واختلاف بين جيلين أكثر فأكثر، هذا دون استعراض الاختلافات الاخرى، فهنا الحزب يصرّ على أنه لم يتبدّل، وبأنها معركة واحدة، بجوهر واحد.
هناك جيل ناضل مطولاً تحت شعار «المقاومة ليست ارهاباً»، هل كان يتحضر يومها للانتقال الى الطور الثاني، وهو تبني عقيدة «مكافحة الارهاب» ذاتها التي كانت تستخدم ضده؟
هناك جيل جديد يراد له أن يتبنى عقيدة مكافحة الارهاب الغربية المصدر، ليسوّغ بها نزفه الدموي في سوريا، لكنه فوق ذلك يراد له أن يتبنى عقيدة ضبط النفس الأسدية المصدر عندما تهاجم اسرائيل أحد اهداف الحزب في سوريا. هذا الجيل الجديد يمكنه ان يقتنع بأشياء كثيرة، الا انه لن يقتنع بأنه في مسعى السيطرة على تلال اضافية في القلمون، يفعل ذلك لأجل العمران في الأرض، ولأجل الزرع، كما كان يمكن أن يستفاد قبل جيل من الحين يوم كان المسعى لتحرير قرى الجنوب اللبناني، أو حتى يوم ارتجلت خطابية تحرير الجليل.