IMLebanon

جنيف آخر جولة… والتسوية بعهدة العسكر والفصائل؟

تداعيات زلزال حلب لم تتوقف. سقوط المدينة استتبع سقوط مرحلة كاملة من عمر الأزمة السورية. ولم يكن لقاء آستانة عابراً وإن اقتصر على تثبيت وقف النار. ساهم في بلورة المشهد المستجد الذي سيستكمل في الجولة المقبلة من المفاوضات في جنيف. كانت الفصائل العسكرية التي شاركت في لقاء العاصمة الكازاخية بعد التزامها وقف النار تنادي بتحرير سورية من الاحتلال الروسي والاحتلال الإيراني فإذا هي في أحسن تنسيق مع موسكو. واعترفت هذه بهم قوى معتدلة بعدما كالت لهم التهم بالارهاب. وكان قادة «الائتلاف الوطني» يبدون أقسى التشدد ويرفضون لقاء الروس. وبحثوا قبل يومين مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في تشكيل وفد المعارضة إلى الجولة المقبلة من المفاوضات. وارتضت «الهيئة العليا للمفاوضات» أخيراً أن تقتسم التمثيل مع «منصتي» موسكو والقاهرة وإن بشروط! وكانت تركيا تعلي الصوت من خارج الحدود. تتوعد وتهدد وتلوح بدعم فصائل معتدلة وغير معتدلة… فإذا هي اليوم على سكة واحدة مع روسيا. حاضرة في الميدان وتمارس ضغوطاً على الفصائل للانضباط والاصطفاف في خط التسوية الموضوعة على النار. وتستعد لتوسيع تدخلها والانخراط في معركة تحرير الرقة.

إعادة التموضع التي فرضها زلزال حلب لم تقتصر على هؤلاء الأطراف وحدهم. جميع المتصارعين في سورية وعليها يبحثون عن مواقع جديدة. لقد دخلت الأزمة مرحلة البحث عن تسوية. إيران التي كانت ولا تزال تصر على يدها العليا في بلاد الشام وتتباهى بأنها حالت دون سقوط النظام، تتوجس الآن من الصفقة الكبرى المحتملة بين الكرملين والبيت الأبيض. وأقصى ما يمكن أن تراهن عليه هو الحفاظ على ما جنت من مكاسب اقتصادية ثمناً لما قدمت، وبعض الضمانات السياسية والأمنية. قد يصبح جل طموحها وطموح ميليشياتها، إذا رأت الصفقة النور، ضمان أمن طريق دمشق – بيروت لتظل جسر تواصل، وقواعد سيطرة لـ «حزب الله» في مناطق غرب سورية محاذية للحدود مع لبنان، خصوصاً القلمون. وكذلك توفير حضور أو تمثيل في صيغة النظام المقبل خصوصاً في الدائرة المعنية بالعلاقات بين دمشق وبيروت. وهي تدرك أن أمامها فترة سماح قد لا تتجاوز شهرين أو ثلاثة، إلى حين تتضح خطة واشنطن للتعامل معها في كل مناطق انتشارها. وتخشى حتماً أن تتولى تركيا تحجيم دورها في سورية بتفاهم أميركي – روسي، على غرار ما يفعل أهل «عاصفة الحزم» في اليمن بدعم واضح من إدارة ترامب.

الأردن بدوره تحرك سريعاً للتنسيق مع القوات الروسية. وشن طيرانه غارات على مواقع لـ «تنظيم الدولة» في الجبهة الجنوبية. وكانت قيادته أبدت من زمن استعدادها للممساهمة الفاعلة في قتال «داعش»، وحتى تحرير تدمر بعد سقوطها للمرة الأولى بيد التنظيم. وألحت بلا جدوى على الإدارة الأميركية السابقة لمد سلاحها الجوي ببعض التقنيات اللازمة للغارات الليلية. وتبدي اليوم جاهزيتها لتحريك قوات «الجبهة الجنوبية» في «الجيش الحر» (تعدادها يقرب من أربعين ألف عنصر)، للمساهمة في تحرير الرقة، إلى جانب قوات تركية وخليجية عربية ومقاتلين محليين. ذلك أن «تيار الغد» الذي يرأسه أحمد الجربا جهز بالتفاهم مع الأميركيين نحو ثلاثة آلف عنصر. ويمكن مضاعفة هذا العدد من أبناء العشائر العربية في الجزيرة لتشكيل قوات كافية قادرة على الإمساك بالأرض في المدينة ومحيطها بعد هزيمة «داعش». فضلاً عن فصائل مقاتلة رعتها دول أوروبية. فلا الروس راغبون في رؤية تمدد الميليشيات المحيلة التي ترعاها إيران والنظام إلى هذه المدينة. ولا الأميركيون يقبلون بتوسع قوات دمشق إليها. ويؤشر هذا التوجه إلى بداية مشروع تركي – عربي لتطويق التمدد الإيراني، ولقطع الطريق على تهديدات «الحشد الشعبي» العراقي بعبور الحدود للمساهة في قتال «تنظيم الدولة». وقد أوفدت حكومة بن علي يلدريم وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو إلى المملكة العربية السعودية للتنسيق مع الرياض التي كانت مراراً عبرت عن رغبتها في المساهمة في تحرير الرقة. وعرضت هذه الحكومة لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مايك بومبيو خطة لتحرير المدينة من دون الاستعانة بالقوة الكردية التي تعاونت معها إدارة اوباما ومدتها بالمساعدات اللازمة، منذ معركة عين العرب (كوباني) وحتى منبج. هذه التحولات فاقمت إرباك النظام في دمشق وإثارة غضبه وغضب حلفائه، خصوصاً حيال صمت روسيا، قبلة معظم هذه التطورات.

ليس سراً أن موسكو تستعجل طي الصفحة الماضية نهائياً. وتحرص على إدارة المرحلة الجديدة وعنوانها إرساء تسوية بأي ثمن. لا يمكنها بالطبع الاستئثار وحيدة برسم الحل السياسي. هناك لاعبون آخرون، لكنها لا ترغب في شركاء منافسين. وهذا هو لب المشكلة بينها وبين طهران. ولم يعد خافياً أن استعادة «داعش» سيطرته على تدمر بقيت إلى الآن بلا رد. كان يمكن القوات الروسية أن تعتمد، كما حصل في المرة الأولى، على قوات النظام والميليشيات التي ترعاها إيران. لكنها لم تفعل إلى الآن. وكانت رفضت بقاءهم في تدمر يوم حررتها العام الماضي. ينتظر الكرملين تبلور الصورة في واشنطن. ولا يعول كثيراً على نتائج الجولة المقبلة من المفاوضات في جنيف. يعرف سلفاً أن إدارة الرئيس ترامب لا تعول كثيراً على هذه الجولة. بل لا ترغب في انعقادها ما دامت في طور درس سياستها حيال الأزمة السورية. أي أن لا توافق حتى الآن بينها وبين موسكو فلماذا إضاعة الوقت؟ أبعد من ذلك تؤشر مواقف روسيا إلى رغبة في إنهاء هذا المسار التفاوضي ولسان حالها أن تنتهي الجولة الموعودة بإعلان طي صفحة جنيف نهائياً، وكذلك إعلان فشل القوى السياسية المتناحرة في التوافق على حل سياسي. هكذا يتعزز سعيها إلى مشروع بديل طالما سعت إليه. يقوم هذا على إجراء مصالحة بين قيادة القوات النظامية وقادة الفصائل المسلحة التي التزمت وقف النار وحضرت لقاء آستانة. وهي على تواصل مع الأردن وتركيا الممسكين بجيشين كبيرين جنوباً وشاملاً. ولن يكون بمقدور فصائل أخرى الاعتراض، خصوصاً أن الإدارة الأميركية الجديدة عبرت عن عدم ثقتها بأي فصيل سياسي أو عسكري. وقررت وقف تسليحها أو مدها بالمساعدات المادية وغيرها. علماً أن الإدارة السابقة مدّت هذه الفصائل بالكثير من السلاح في الأشهر الأخيرة.

تسترشد موسكو بنموذج مصر حيث تولى العسكر إعادة تصويب الأوضاع. وتدفع باتجاه مماثل في ليبيا حيث بدأ المعنيون في الخارج يميلون إلى سيناريو مشابه، مع فتح أبواب كانت مغلقة أمام الجيش الذي يقوده المشير خليفة حفتر. ويعول الكرملين على التسوية بين المعسكرين، الجيش النظامي والفصائل المسلحة، وعلى قدرة هاتين القوتين على تشكيل جيش جديد يتولى إدارة مرحلة انتقالية تمهد لقيام نظام يرضي جميع المتصارعين المحليين والخارجيين. ويقوم على صيغة تقاسم السلطة بين الرئاسة والبرلمان. ولا يخفى أن مشروع الدستور الذي اقترحته القيادة الروسية، أياً كانت مواقف السوريين منه، طوى عملياً صفحة نظام الرئيس بشار الأسد. لكنه لم يعط في المقابل المعارضة كل ما تريد. إنها وثيقة حاولت أن تأخذ من النظام السابق نصف ما كان له لتمنحه للمعارضة. لن يرسي الكرملين نظاماً ديموقراطياً كاملاً كما تطالب الفصائل وقوى المعارضة. لن يكون «كريماً» مع هذه القوى، هو الذي لا يأبه بالمعارضين في بلاده. ولا شك في أن طي صفحة النظام السابق ورئيسه، وإن استمر بقاء الرئيس إلى حين، يسهل على ترامب خيار التفاهم مع نظيره الروسي بوتين والتنسيق معه في محاربة «داعش» وإجراء التغييرات المطلوبة في سورية. ويحل عقدة التناقض الذي يشوب موقفه. فكيف يمكن الرئيس الأميركي الجديد التوفيق بين تهديده إيران بتقليم نفوذها في المنطقة وتفضيله بقاء أو إعادة تأهيل الأسد، أكبر حلفائها، على وصول الفصائل التي تقاتله!

أما أنقرة التي تبدو هذه الأيام أكثر اندفاعاً، فهي تعول على علاقاتها الممتازة مع موسكو من جهة وعلى إعادة فتح الأبواب بينها وبين واشنطن من جهة ثانية. وستعوض الكثير مما فاتها، إذا سارت الأمور وأثمرت ديبلوماسيتها النشطة هذه الأيام. ستساهم في تقليص نفوذ إيران من جهة، وتحد من طموحات الكرد. وتمكن المعارضة السياسية أو النظام المقبل من التفاوض معهم على آلية علاقتهم بالعاصمة وحدود استقلال إدارة شؤونهم بأنفسهم. كما أن تركيا بمثل هذا الانتشار شمالاً من الباب إلى منبج والرقة لاحقاً ستعزز موقعها في العلاقة أو التفاهم مع روسيا التي لا ترغب في نشر قوات على الأرض بقدر ما تستعجل سحب وحداتها الحالية لتكتفي بالقواعد التي أقامتها وعززتها «قانونياً» منذ تدخلها في ايلول (سبتمبر) 2015. لكن هذا السيناريو الوردي الذي يسعى إليه الرئيسان فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان قد يصاب بانتكاسة. لن ينطلق قطار التسوية إذا أصرت واشنطن بالتفاهم مع أنقرةعلى إقامة مناطق آمنة. مثل هذا التطور سيفرض قيوداً على حركة قوات روسيا ويقلص من نفوذها. فهي تعول على المنصة السورية من دون منازع أو تشويش وتهديد لتوكيد عودتها قطباً دولياً، ولحجز دورها في بناء نظام إقليمي يحفظ لها إنجازاتها ومصالحها في الشرق الأوسط الكبير. فهل ينجح ترامب وأردوغان في تقديم صيغة لمنطقة آمنة لا تثير حفيظة بوتين وتهدد طوحاته ولا تدفعه إلى قلب الطاولة والعودة إلى الخيار الإيراني؟