فجأة، أصبح هناك جورج عقيص. القاضي السابق، المُستقيل، أصبح نائباً قوّاتيّاً. صار يظهر في مقابلات الصباح التلفزيونيّة، يُطلِق تصريحات سياسيّة، يُساجل ويُناقش ويُحاور، إذ ما مِن «موجب تحفّظ» (قضائي) بعد اليوم. مقابلته الأخيرة أدخلته في سجال «خفيف» مع وزير العدل سليم جريصاتي. كان ذلك مناسبة للتعرّف أكثر على عقيص. عبثاً يُحاول القضاة، أقلّه في لبنان، أن يُحيطوا أنفسهم بهالة مِن القداسة. هم أبناء هذا المجتمع، بكلّ ما فيه، وهنا أهميّة تجربة عقيص. بدأ حياته المهنيّة في الصحافة عبر دوريّة «زحلة الفتاة». أصبح محامياً. هو آتٍ مِن بيت ليس قوّاتيّاً. والده أقرب إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. حتّى هو لم يكن بعيداً عن هذا التوجّه. أصبح قاضياً في البقاع، وقيل إنّ رئيس الجمهوريّة السابق، إلياس الهراوي، كان بوابته للارتقاء مِن طبقة إلى أخرى. ليس غريباً أن يكون مُقرّباً مِن رستم غزالة، ضابط الاستخبارات السوريّة في لبنان، قبل نحو 16 عاماً. يومذاك كان البعض يعدّه مِن قضاة «الوصاية السوريّة». مَن لم يكن كذلك آنذاك؟ مع اغتيال رفيق الحريري كان مِن الذي نقلوا «البندقيّة» مِن كتف إلى آخر. أصبح «سياديّاً». خلال كلّ هذه التحوّلات كان قاضياً. القضاة أيضاً يتحوّلون! المُهم، عقيص مِن الداعين، حالياً، إلى أن «تُلزّم» وزارة العدل لحزب القوّات اللبنانيّة. رأيه أنّ «القوّات» هي القادرة على اجتراح معجزة العدالة في لبنان. مارس أكثر مِن الغمز تجاه الوزير الحالي، جريصاتي، المحسوب على التيّار الوطني الحرّ. فاته أنّ «القوّات» توّلت وزارة العدل، عبر الوزير إبراهيم نجّار، لمدّة ثلاث سنوات، ومع ذلك لم يُصبح لبنان جنّة العدالة! لم تحصل المعجزة! على العكس، في تلك الفترة أصبح القضاء بمثابة العصا التي تضرب بها «القوّات» خصومها. وحده الله يعلم كم جنى حزب عقيص أموالاً، في تلك الفترة، مِن قضايا القدح والذم في كلّ كبيرة وصغيرة. الأرشيف مليء بتجاوزات تلك الحقبة. يُلمّح عقيص، في تصريحاته، إلى جدارته الشخصيّة وأهليّته ليكون وزيراً للعدل. يَطلب أن يتسلّم هذه الوزارة شخص مِن «الكار» القضائي لأنّه يعرف الخفايا ويفهم كيف تجري الأمور. هكذا، يبدو في سجال عقيص ـــ جريصاتي الكثير مِن الشخصنة. كلّ هذا لا يعني أنّ جريصاتي ملاك عدليّ. بالتأكيد، يُمكن أن تُقيّم تجربته في الوزارة على حدة.
بالمناسبة، صحيح أنّ عقيص لم يُطرد مِن القضاء، وأنّه لم يُسجّل بحقّه سلوك شائن، وأنّه هو مَن بادر إلى الاستقالة، إلا أنّه حاول أن يُظهر خطوته هذه على أنّها «ثورة» عدليّة. لكن أين المهرب مِن الأرشيف؟ في مقابلة لصحيفة «النهار» معه (عام 2012) نجده يقول إنّ «الغربة في القضاء هي ما دفعته إلى الاستقالة». قدّم المسألة على أنّها خطوة في سبيل تعزيز استقلاليّة القضاء، وفصله عن السياسة، وأنّه استقال «لأن القضاء في لبنان ليس بخير». هنا تأتي أهميّة ما كشفه جريصاتي في ردّه على عقيص. الأوّل تحدّث أنّ الثاني ترك القضاء فعلاً، لكنّه حاول، أكثر مِن مرّة، أن يعود إليه، لكن مِن دون جدوى. كان مجلس القضاء الأعلى يرفض ذلك، لا لأسباب شخصيّة، في الظاهر، بل بسبب «قانون الموظّفين».
حاول عقيص على مدى سنوات العودة إلى القضاء رغم تظهيره لاستقالته كعمل ثوري
حصلت «الأخبار» على نسخ مِن رسائل عقيص إلى مجلس القضاء الأعلى، بداية مِن عام 2010، ورسائل إلى أكثر مِن وزير عدل تعاقب على الوزارة، يطلب فيها العودة، لكن مِن دون نتيجة. هنا السؤال، هل أصبح القضاء رائعاً، خالياً مِن السياسة والدسم، حتّى قرّر عقيص العودة إليه؟ إذاً، لِمَ تلك العراضات «الثورجيّة» والشعارات «المبهبطة»؟ في الواقع، عقيص كان يُريد أن يُغادر إلى دولة الإمارات العربيّة المتّحدة للعمل هناك لنحو عامين، بغية تحصيل مردود مالي عالٍ، ثم بعد ذلك العودة لاستئناف عمله القضائي في لبنان. لم يَنل الإذن لذلك. عندها قرر أن يُغامر ويسافر. عمل بصفة مستشار في دائرة القضاء في إمارة أبو ظبي «بموجب عقد خاص». كوّن شبكة علاقات مع أصحاب نفوذ. كلّ هذا كان بمثابة مقدّمات لأن يُصبح اليوم نائباً. للأمانة، هناك قضاة كان مجلس القضاء الأعلى ووزراء العدل يأذنون لهم بالعمل في الخارج، مِن أجل تحسين دخلهم المالي، على أن يعودوا للعمل في القضاء بعد انتهاء عقودهم. أحياناً يحصل هذا بموجب اتفاقيّة بين الدول بعناوين مختلفة، مثل «الاستيداع» أو «الإعارة» وغير ذلك. أبواب «الرزقة» كثيرة لِمَن يعرف أطرها… والأهم، لِمَن لديه «الواسطة».
عموماً، كلّ هذا أصبح مِن الماضي. عقيص الآن نائب «عن الأمّة» في لبنان. لديه تجربة جديرة بأن تقرأ، ليس لمجرّد التوقّف عند شخصه، بل لمعرفة بعض ما يحصل في «دهاليز» القضاء. كثيرون اليوم مِن القضاة يغبطون عقيص على ما وصل إليه. ربّما لو أصبح وزيراً للعدل، فسوف يبعث برسالة إلى نفسه، يطلب فيها مِن نفسه أن يوافق على إعادة نفسه إلى القضاء، ولو ليوم واحد فقط. سنوات وهو يُحاول، بلا جدوى. الآن أصبح مِن «طبقة أعلى». بالتأكيد، قبالة الوزارة والنيابة يُصبح القضاء «مش أكلة». الحديث هنا عن لبنان طبعاً. أيّاً يكن، علت الأصوات أخيراً، على نحو غير مسبوق، لمكافحة الفساد. واهم مَن يعتقد أنّ بإمكانه، ليس مكافحة الفساد، بل مجرّد إصلاح بسيط في منظومة الدولة، ما لم يُصلح القضاء. هي العدالة. أزمة هذه البلاد هي في نظام العدالة.