Site icon IMLebanon

جورج حاوي أب «المقاومة الحقيقية» .. الدائم

لم يغب اسم جورج حاوي لا عن الساحة السياسية ولا عن الحوارات التي كانت قائمة قبل خروج النظام السوري من لبنان وبعده، إلا يوم استهدفه هذا الأخير بعبوة ناسفة استهدفت سيارته في منطقة وطى المصيطبة في صبيحة الواحد والعشرين من حزيران عام 2005. وكان القاتل أراد أن يُمعن في إغراق البلد في مشاكله السياسية التي تسبّب هو فيها، وفي صراعات مذهبية زرعها وغذّاها بين اللبنانيين، لكن يوم القطاف جاء بحصاد أجساد وقفت للمرّة الأولى لتقول لنظام الوصاية والغدر «إرحل».

في يوم اغتيال حاوي، خرجت جميع أصابع الإتهام في البلد، لتدل على النظام السوري مُباشرة خصوصاً وأنه كان قد أمعن في استهداف شخصيات نخبوية خلال مرحلة شعر فيها بمدى درجة الوعي التي بات يتمتّع فيها الشعب اللبناني من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، الأمر الذي اعتبره النظام بمثابة تهديد مباشر له ولوجوده في لبنان وإدراكه أن يوم الرحيل قد شارف على بدايته. والواقع أن «أبو أنيس» اغتيل بعد اسبوعين من توجيهه الإتهام للنظام السوري باغتيال الصحافي سمير قصير، وبعد فترة وجيزة على مشاركته في «ربيع بيروت» الذي تحقّق بدماء قافلة الشهداء التي كتبت تاريخ لبنان الحديث مع سقوط أول نقطة دم من الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وصولاً الى اغتيال الوزير الشهيد محمد شطح.

يستذكر أصحاب ورفاق «أبو المقاومة» أوّل زيارة له إلى ما كان يُعرف بالمنطقة «الشرقيّة». يقولون أنه في تلك الأيام كان يتحضّر مع عدد من خيرة الرجالات على الساحة اللبنانية من أصحاب الفكر والسياسيين ورجال الدين، لإعلان لحظة البدء بالعمل على إخراج لبنان من الحرب الأهلية من خلال الحوارات والتلاقي بين جميع الاطياف. يومها وخلال لقائه البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، سأله صفير: «ألست خائفاً مما تفعله أولاً من حيث اختراق حواجز السياسة ومن ثم دخول مناطق لم تزرها منذ زمن طويل؟»، فكان ردّ حاوي: «إن ضرورة ربط أنحاء الوطن ببعضها لا تحتاج إلى موافقة من أحد، ولا تحتاج إلى الخوف، إنما تحتاج لإرادتنا نحن».

جورج حاوي، إسم عُرف في السلم كما عُرف في زمن الحرب. رجل أراد بعد صولات وجولات من الصراعات المذهبية والطائفية والإقتتال بين أبناء البلد الواحد، أن يخرج من لعبة الإرتهانات ومن شرنقة التبعية. رجل أراد أن يخلع عن نفسه رداء الإنقسام الذي كان يلفه النظام السوري حول العديد من الاحزاب والشخصيات ضمن المناطق اللبنانية التي كانت تخضع لنفوذه، وأن يستبدله بثوب الوطن الجامع لكل أبنائه من دون تمييز. أراد ان يُعلن إنتهاء زمن الإقتتال الداخلي والحذر في التعاطي بين اللبنانيين، لكن يد القاتل كانت أسرع وعبوة الغدر كانت أمضى بحيث وصلت اليه واغتالته على طريق الحوار الذي كان يُعبّده تحت عنوان «انتهى زمن الإقتتال. أنه زمن التقارب والتلاقي والحوار».

رجل من زمن الشيوعية جاء يسعى لفك الطوق عن رقاب اللبنانيين. خرج مُبكراً من دائرة الوصاية إلى رحاب الوطنية ليُحاور خصوم و«أعداء» الأمس على قاعدة أن لبنان وطن يتسع لجميع أبنائه وأن النقد الذاتي والخروج من ذهنية الإستقواء، هو الطريق الوحيد أو الشرط الأساسي لإعادة السلم الأهلي وتكريس العيش المشترك. لكن وسط حركة لم تكن تهدأ، كان هناك من يتربّص حركة حاوي وتحركاته ولقاءاته اليومية التي كان يعقدها تباعاً في منزله في بتغرين، حتى نالوا منه في «عيد الأب» ليُغادر يومها رجل «شيوعي» آمن بأن الخروج من السجن، يستلزم لقاءات مع رجالات الدين كما السياسيين استعداداً للبنان الآتي الموعود بالحرية والسيادة والإستقلال.

في حديث صحافي قال حاوي مرة «يجب أن يُبنى البلد بسواعد جديدة من مثقفين ومن عمال وفلاحين، ومن أصحاب إرادة تستطيع فعلاً أن تلتقي لتبنيه». لكن للأسف، فإن هذا الرجل المتّزن بأخلاقياته والمُتمرّس في السياسة والمُتجذّر في وطنه والقادر بلغته وحواراته المتماسكة وصوته الجهوري أن يثبت دائماً منطقه السليم، لم يستطع أن يُقنع عبوة ناسفة «أهداه» إياها نظام «البعث» مُكافأة له على جهوده الوطنية، بأن تبتعد قليلاً عنه ريثما يُحقّق حلمه في وطن كان ينزف دماً، في زمن كان يُفترض أنه زمن السلم. ومع هذا، فقد آثر «أبو أنيس» أن يرسم للأجيال القادمة خارطة طريق على قاعدة «نحن لسنا كانتوناً ولا طائفة ولا مخيماً ولا منطقة ولا مكتباً. نحن جزء من هذا الشعب، فليضربونا وليضربوا هذا الشعب وهو الكفيل برد الصاع صاعين».

عرف جورج حاوي منذ اللحظة الأولى أن طريق إنتفاضة الإستقلال، لا يُمكن ان يؤدي إلا إلى النور. ألبسوه العتمة بعدما وقف في ساحة الحرية إلى جانب رفاقه المتنوعين في البلد ليواجه آلة القتل التي أطلق يدها النظام السوري. يومها عبّر عن وجعه كلبناني أوّلاً بعدما رأى كيف أن البعض تخلّى عن لبنانيته ليكون إلى جانب القاتل وداعماً لوجوده ومدافعاً عنه بشراسة لدرجة أوصلت هؤلاء الاتباع إلى حد إتهامه بـ«العمل ضد العروبة». وقد تناسى هؤلاء أن حاوي ومعه شريكه في النضال محسن ابراهيم، كانا أوّل من أسّس للعمل المقاوم لمواجهة العدو الإسرائيلي في لبنان. ومعاً كتبا البيان الأول، لأول عملية فدائية نظمها ونفذها شيوعيون ضد عساكر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في أيلول 1982.

جورج حاوي، الرجل الذي حلم بوطن يتسع للجميع وبنقاط تجمع بين أبناء البلد الواحد وبتاريخ يُنصف حركات المقاومة في لبنان، وبجغرافيا نظيفة غير مُعتدى عليها، كانت العبوة أسرع من أحلامه فقط بعدما انتزع من نهاية العمر ثواني معدودة قال فيها لمرافقه «اخرج من السيارة بسرعة، فربما هناك عبوة أخرى».