أراد أن يخرج من شرنقة التبعية وأن يخلع عن نفسه ثوب الإنقسام الذي كان يلفه النظام السوري حول العديد من الاحزاب والشخصيات ضمن المناطق اللبنانية التي كانت تخضع لنفوذه. أراد ان يُعلن إنتهاء زمن الإقتتال الداخلي والحذر في التعاطي بين اللبنانيين بأحزابهم ومذاهبهم، لكن يد القاتل كانت أسرع بحيث وصلت اليه واغتالته بعدما كانت استهدفت قافلة من الأحرار أولهم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الوزير باسل فيلحان والصحافي سمير قصير يُضاف اليهم محاولة اغتيال النائب مروان حمادة.
خرج مُبكراً من دائرة الوصاية إلى رحاب الوطنية. حاور خصوم و»أعداء» الأمس على قاعدة أن الوطن يتسع لجميع أبنائه وأن النقد الذاتي والخروج من ذهنية الإستقواء، الطريق الوحيد أو الشرط الأساسي لإعادة السلم الأهلي وتكريس العيش المشترك. لكن وسط هذه الحركة التي لم تكن تهدأ، كان هناك من يتربّص حركته وتحركاته ولقاءاته اليومية التي كان يعقدها تباعاً في منزله في بتغرين، حتى نال منه في الواحد والعشرين من شهر حزيران العام 2005 في منطقة وطى المصيطبة، في «عيد الأب» ليرحل يومها «الشيوعي» الذي كان قد آمن بأن اللقاءات أكثر من ضرورية مع رجالات الدين والذي كان يستكمل نفسه استعداداً للبنان الآتي الموعود بالحرية والسيادة والإستقلال.
جميع أصابع الإتهام في اغتيال حاوي، توجهت يوم الجريمة إلى النظام السوري مُباشرة وهو الذي كان قد أمعن في استهداف شخصيات نخبوية بعدما شعر بمدى خطورتها على وجوده في لبنان. والجدير ذكره أن حاوي اغتيل بعد اسبوعين من اتهامه النظام السوري باغتيال قصير، وكذلك بعد مشاركته في «ربيع بيروت» الذي تحقّق بدماء قافلة الشهداء التي امتدت الى الوزير الشهيد محمد شطح. ويُكتب لأبو أنيس، أنه وفي أوّل زيارة له إلى ما كان يُعرف بالمنطقة «الشرقيّة» للبدء بالتحضير لخروج لبنان من الحرب الأهلية، يومها وخلال لقائه البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، سأله صفير: ألست خائفاً مما تفعله أولاً من حيث اختراق حواجز السياسة ومن ثم دخول مناطق لم تزرها منذ زمن طويل؟ كان ردّ حاوي «إن ضرورة ربط أنحاء الوطن ببعضها لا تحتاج إلى موافقة من أحد، ولا تحتاج إلى الخوف، إنما تحتاج لإرادتنا نحن«.
آمن حاوي بقضية وطن ما زال ينزف دماً. عرف منذ اللحظة الأولى أن طريق إنتفاضة الإستقلال، لا يُمكن ان يؤدي إلا إلى النور. ألبسوه العتمة بعدما وقف في ساحة الحرية إلى جانب رفاقه المتنوعين في البلد ليواجه آلة القتل التي أطلق يدها النظام السوري، ويومها عبّر عن وجعه بعدما رأى كيف أن البعض تخلّى عن لبنانيته ليكون إلى جانب القاتل وداعماً لوجوده ومدافعاً عنه بشراسة لدرجة أوصلت هؤلاء الاتباع إلى حد إتهام «أبو أنيس» المعروف بـ«أبو المقاومة» خلال مهرجاناتهم الفولكلورية، بأنه يعمل مع آخرين ضد العروبة والمقاومة. وقد تناسى هؤلاء أن حاوي ومعه شريكه في النضال محسن ابراهيم، كانا أوّل من أسّس للعمل المقاوم لمواجهة العدو الإسرائيلي في لبنان.
في حديث صحافي قال حاوي مرة «يجب أن يُبنى البلد بسواعد جديدة من مثقفين ومن عمال وفلاحين، ومن أصحاب إرادة تستطيع فعلاً أن تلتقي لتبنيه«. هذا «الأب» المُدرك لمتغيّرات الواقع السياسي في لبنان ومحيطه والقادر بلغته المتماسكة وصوته الجهوري أن يثبت دائماً منطقه السليم، لم يستطع أن يُقنع عبوة ناسفة «أهداه» إياها نظام «البعث» مُكافأة له على جهوده الوطنية، لتبتعد قليلاً عنه ريثما يُحقّق حلمه. لكنه قبل أن يرحل، كتب وصيّته بجملة قالها «نحن لسنا كانتوناً ولا طائفة ولا مخيماً ولا منطقة ولا مكتباً. نحن جزء من هذا الشعب، فليضربونا وليضربوا هذا الشعب وهو الكفيل برد الصاع صاعين«.
كانت العبوة اسرع من أحلام جورج حاوي. رحل قبل أن يُشاهد ثورة الشعب السوري ضد حُكّام الظلم والظلام. يومها كان يريد التوجه إلى اجتماع مع «الرفيق» رئيس حركة «اليسار الديمقراطي» الياس عطاالله الذي كان انتخب حديثاً عن شمال لبنان. ويومها أيضاً، خسر القاتل وانتصر اعتدال حاوي ودماء الشهداء الذين سبقوه والذين لحقوا به. في جنازته بكاه لبنان بكل تلاوينه الحزبية والمذهبية، ووحدها كلماته لمرافقه ثابت بزّي في اللحظة التي أدرك فيها شهادته، كانت محطة وقف عندها الجميع وتأمل فيها تجليات روح هذا الرجل حتى وهو يُفارق الحياة: «اخرج من السيارة بسرعة، فربما هناك عبوة أخرى«.