IMLebanon

راهنيّة جورج حاوي سياسياً اليوم: إعادة التوازن للمسألة اللبنانية

 

تحلّ الذكرى الثالثة عشرة على اغتيال القيادي اليساري والوطني جورج حاوي، وهي الجريمة المُدرجة في سياق اغتيالات متسلسلة ذهب ضحيتها اثنتا عشرة شخصية سياسية واعلامية وأمنية (2005 – 2013) وعشرات المواطنين، وكانت لحظتها الأكثر دموية وقت تفجير موكب الرئيس رفيق الحريري وإلى جانبه باسل فليحان، ومن بعده اغتيال الصحافي والمؤرخ سمير قصير، ثم جورج حاوي، وتواصلت حلقات الإجرام، مع اغتيال كل من جبران التويني وانطوان غانم وبيار الجميل ووليد عيدو ووسام عيد وفرنسوا الحاج ووسام الحسن ومحمد شطح، ناهيك عن محاولات اغتيال مروان حمادة والياس المر ومي الشدياق. معظم هذه الشخصيات كانت فاعلة إما في الحركة الضاغطة في الإتجاه السيادي بعيد محنة التمديد القسري للرئيس إميل لحود في خريف 2004، وإما في انتفاضة الإستقلال التي أعقبت اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وإما في العمل الجبهوي ضمن فريق 14 آذار، وإما في مواكبة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي صارت باغتيالهم في سياق طلبهم هم لمعرفة من قتل من سبقهم، معنية بإجلاء الحقيقة عن مقتلهم هم أيضاً.

 

الوقت غدّار. فسنوات “الرعب الإغتيالي” هذه التي امتدت ثماني سنوات، توقفت من خمس سنوات. من صار بعمر يحق له الاقتراع في الانتخابات التشريعية الأخيرة كان لا يزال طفلاً دون العاشرة يوم اغتيال معظم شهداء تلك الفترة الخطيرة جداً من تاريخ لبنان، التي شهدت في نفس الوقت حرباً تدميرية همجية اسرائيلية ضد لبنان في تموز وآب 2006، الحرب التي أحدثت “انشطاراً سردياً” في المجتمع اللبناني يزيد خطورة عن الشقاق الحاصل بين ساحتي 8 و14 آذار قبل ذلك بعام، وكان من تداعياتها “تعليق” جبهة الجنوب، بل اقتضاء انسحاب سلاح “حزب الله” من منطقة جنوب الليطاني، وتوسيع نطاق “اليونيفيل” وانتشار الجيش في هذه المنطقة، واستدارة لهذا السلاح بإتجاه الداخل، ما بلغ ذروته في 7 أيار 2008. وإذا كان الشقاق بين الساحتين عام 2005، عولج بشكل جزئي بطاولة الحوار، والانشطار السردي على خلفية حرب تموز ووصولاً إلى استدارة سلاح الحزب باتجاه الداخل، قد عولج، جزئياً، بصلح الدوحة، فقد جاءت موجة الخلاف العميق الثالثة بين اللبنانيين بدءاً من العام 2011، على خلفية نشوب الثورة السورية وحرب النظام عليها ثم الحرب الأهلية الشاملة والتدخلات الخارجية فيها ومنها تدخل “حزب الله”. ثلاثة أوجه للإنقسام الأهلي الحاد بين اللبنانيين، رابعها تخللها وكان له في كل منعطف حصة، وضريبة من الدم المراق، عنينا بذلك الانقسام على خلفية الإغتيالات السياسية المتسلسلة، وبأقل تقدير، الانقسام على خلفية مواجهتها، وإحقاق العدالة في شأنها، وقبل كل شيء عن كيفية إيقافها، وامتناع استئنافها.

 

لم تعالج أي من الملفات المسببة لأوجه الإنقسام الأربعة هذه (الإنقسام على خلفية الموقف من الوصاية السورية وانسحابها، الانقسام على خلفية الموقف من الاغتيالات المتسلسلة، الانقسام على خلفية حرب تموز ومن ثم حول سلاح “حزب الله”، الانقسام على خلفية الثورة والحرب والتدخل في سوريا)، أو الملفات الناشئة عنها. مع هذا، غادرنا، على ما يظهر من توالي السنين، فترة التناحر الحاد والحماسي، و”المارتيرولوجيا المباشرة والمعاشة”. غادرنا تلك الفترة الصراعية الجذرية، في وقت اتخذ فيه المشهد الاقليمي من العراق الى سوريا الى اليمن الى سيناء الى ليبيا طابعاً مأسوياً بدا لبنان فيه “مستقرّاً” هو الذي يعيش على مجموعة من القضايا الخلافية الحادة والمزمنة المستعصية، لكنه استطاع في الوقت نفسه الحفاظ على واجهة مؤسساتية رسمية رغم كل ما يعتورها من تصدّعات، وأكثر، وعلى منسوب معيّن من السلم الأهلي، خصوصاً إذا ما قورن بالنماذج الاقليمية الملتهبة.

 

هنا تكمن راهنية جورج حاوي اليوم. ليس فقط في استذكاره كرمز نضالي في ذاكرة اليسار اللبناني والعربي. ليس فقط في استذكار دوره في إطلاق وقيادة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي. ليس فقط في استذكار دوره في المبادرات التصالحية بعد الحرب، ومن بعدها مزاوجته بين همّ المصالحة الوطنية وهمّ الحوار في اتجاه استرجاعي للسيادة ثم اصطدامه مع من اعتبرهم الرؤوس المعطّلة للحوار في لبنان وسوريا، كان هذا قبل أن يتّضح أن هذه الرؤوس ليست فقط معطّلة للحوار، بل مصممة على كل ما خبرناه وعايشناه في لبنان ثم سوريا طيلة الثلاثة عشر عاماً الماضية، والى الآن، بالنسبة الى الداخل السوري.

راهنية جورج حاوي اليوم، هي في كل هذا بالتأكيد، لكنها أيضاً، وقبل كل شيء، في التشديد على أنّه قد آن الأوان للتفكير بمرحلة جديدة، بالنسبة للبنانيين، وبشكل أساسي بالنسبة للمعنيين بالقضية الوطنية اللبنانية في أبعادها المتكاملة كقضية إنتاج مناعة داخلية للوحدة الوطنية المتّسعة لكل آفاق التعدّد، وكقضية سيادة بمعناها الشامل، سياسياً واقتصادياً وبإزاء كل أشكال التدخّل والوصاية، وكقضية تصالح كيانيّ مع الإنتماء الى المحيط العربي. لم نعد في مرحلة التصادم التناحري 2005 – 2013، رغم كل ما تحمله هذه المرحلة من دروس وخبرات وآلام وموجبات متابعة الملفات المتعلّقة بضحايا هذه الحرب السرّية الارهابية. لكن مرحلة ما بعد التناحر، التي نشعر فيها باستقرار كئيب، عجيب، يكاد في لحظة يُطاح به، ثم ترمّم مشهديته في لحظة ثانية، ليست في الحقيقة بمرحلة يمكن الاطئمنان لها، والاستثمار فيها، ومأسسة الخلافات في إطارها. الانتقال الى المرحلة اللبنانية الثالثة في “تاريخ ما بعد الوصاية السورية” يستلزم قبل أي شيء آخر نموذجاً يُستلهم، لأن المرحلة الجديدة العتيدة تستلزم قبل كل شيء إعادة التوازن إلى أبعاد المسألة الوطنية اللبنانية بدلاً من اللاتوازن الذي تكون نتيجته تهميش مفهوم الديموقراطية باسم “التعدد” و”الميثاقية”، أو الافتئات على الكيانية اللبنانية، أو على العكس، المكابرة على العمق الانتمائي العربي لهذا البلد. الحاجة الى جورج حاوي اليوم هي حاجة لاستعادة التوازن بين أبعاد المسألة الوطنية الديموقراطية اللبنانية، واستعادتها الى مكانها الصحيح، كمسألة تحرّرية، معنية بإعادة الوصل مع فكرة التقدم.