زيارة الوزيرة ماري كلود نجم واللواء عبّاس إبراهيم لباريس، ولقاؤهما مسؤولين فرنسيين لبحث قضية المناضل جورج إبراهيم عبد الله، أعاد تحريك المياه الراكدة ورفع منسوب الأمل باقتراب إطلاق سراحه. «المفاوضات مُتقدمة»، تقول مصادر مُتابعة، من دون أن تُبالغ بالإيجابية، لأنّ فرنسا ما زالت تشترط اعتذار عبدالله عن ماضيه، فيما هو يرفض مبدأ البحث في أصل موقفه السياسي من نضاله ومن حاضره
«… أعدكم بأنّني لن أترككم»، قال رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون للبنانيين بعد زيارته السيّدة فيروز في أيلول الماضي… هو الذي أتى تَاركاً جورج ابراهيم عبدالله في المعتقل الفرنسي. منذ انفجار 4 آب، قَدِم ماكرون مرّتين إلى لبنان، من دون أن يسعى في أيّ منهما إلى محو عار دولته في قضيّة عبدالله. تكلّم عن عناوين «إصلاحية» وأعطى دروساً في «بناء الدولة»، مُتناسياً انتهاك فرنسا الفاضح لحقوق الانسان في موضوع عبدالله واستمرار احتجاز حرّيته رغم انتهاء مدّة محكوميته سنة 1999. 37 سنة مرّت على اعتقال ابن «الألوية الثورية اللبنانية – FARL» في باريس، ليُصبح في ذلك أقدم الأسرى السياسيين في أوروبا. ومن حينه، تُنفّذ فرنسا أوامر الولايات المتحدة الأميركية والعدّو الاسرائيلي في منع إطلاق سراحه وتنفيذ طلبات الإفراج المشروط. في الـ2013، امتنعت النيابة العامة في فرنسا عن تنفيذ قرار غرفة تطبيق العقوبات في باريس الإفراج عن عبدالله، ثمّ لحقها رفض العديد من طلبات الإفراج المشروط.
عام 2018، تبنّت الدولة اللبنانية للمرّة الأولى قضيّة المناضل جورج إبراهيم عبدالله، عبر ثلاثي رئاسة الجمهورية – وزارة الخارجية والمغتربين – الأمن العام، من دون نتيجة. فالفرنسيون «ابتزّوا» عبدالله بحريته عبر اشتراط تقديمه اعتذاراً عن ماضيه وإعلانه التوبة، ما رفضه جورج. لكن فجأةً، عادت قضية المُناضل الأممي لتتصدّر المشهد اللبناني، ويرتفع الحديث عن اقتراب الإفراج عنه.
تطوران «يُبرّران» هذه الإيجابية؛ الأول هو زيارة وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال، ماري كلود نجم، سجن «لانميزان» ولقاؤها جورج مرّتين في يومٍ واحد، لمدّة ثلاث ساعات. لم يكن هدف وجود نجم في فرنسا لقاء عبدالله، بل كانت زيارة خاصة في الأساس. قبل مغادرتها لبنان، بحثت مع الرئيس ميشال عون، ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب، وبقية المعنيين، إن كانوا يُرحّبون باجتماعها بعبدالله، فأتى الجواب إيجابياً. الرئيس عون كان فاتح الرئيس الفرنسي، أثناء وجوده في لبنان، بقضية عبدالله. ماكرون شرح البعد القانوني، وهو ما جعل عون يقرر إرسال شخصية معنية بالجانب القانوني. التحضيرات لزيارة نجم للسجن تمّت بعد وصولها إلى فرنسا، وقد حرص الفرنسيون على ربط الموافقة على طلب الزيارة بعدم تصريح الويزرة بأي معلومة للإعلام قبل الزيارة وبعدها، وفق ما تؤكّد مصادر دبلوماسية. يقول روبير عبدالله، شقيق جورج، إنّ الأخير «كان مُرتاحاً خلال لقائه نَجم، ولا سيّما أنّها المرّة الأولى التي يزوره فيها وزير لبناني، وهي أبلغته وجود متابعة رسمية لقضيته».
يشترط الفرنسيون اعتذار عبدالله عن ماضيه لمنحه عفواً رئاسياً
أما التطور الثاني، فهو زيارة المدير العام للأمن العام، اللواء عبّاس ابراهيم، فرنسا وعقده لقاءات مع مسؤولين فرنسيين بحث خلالها إطلاق سراح عبدالله، ضمن جدول أعمال إضافي يشمل الموقف الفرنسي من المسألة الحكومية في لبنان وخلفيات الحديث عن عقوبات مفترضة على مسؤولين لبنانيين بتهمة عرقلة تأليف الحكومة.
«هذه المرّة يوجد جدّية فرنسية في ملفّ جورج عبدالله لم نعهدها سابقاً»، تقول مصادر مُتابعة للقضية، مُعتبرةً أنّ «المفاوضات قطعت شوطاً مُهمّاً». إلا أنّ الحَذَر وعدم المبالغة في الرهان على «الضمير الفرنسي» يبقيان واجبين. القضية لم تصل خطّ النهاية، بسبب عراقيل ما زالت السلطات الفرنسية ترفعها في وجه لبنان. تُفيد المعلومات بأنّه قبل زيارة نجم – برفقة السفير رامي عدوان – الأسير عبدالله، التقت مسؤولين فرنسيين أبلغوها أنّ «مفتاح حلّ القضية هو إصدار عبدالله بياناً يُقدّم فيه اعتذاره لذوي الذين سقطوا في العمليات التي اتُّهم بتنفيذها وندمه عن الماضي، حينها سيصدر عفو رئاسي فرنسي عنه ويُطلق سراحه». جورج، الذي يحتفل في 2 نيسان بعيد ميلاده الـ70، ذكّر وزيرة العدل بمواقفه ضدّ الامبريالية، مؤكداً التزامه نهج المقاومة، ومُكرّراً عدم ندمه ورفضه الاعتذار عن ماضيه. والأهم من ذلك، أنّ جورج مُتمسّك بما أعلنه سابقاً: رفض تسوّل حريته، وهو يتمنى على السلطات في بيروت عدم التفاوض باسمه حول إطلاق سراحه بناءً على الشروط الفرنسية. وهو يرى نفسه سجيناً سياسياً، ولتتحمل فرنسا مسؤولية احتجازه أو حتى إعدامه في السجن.
يقول محامي عبدالله، الفرنسي جان لوي شالانسيه لـ«الأخبار»، إنّه لم تطرأ عوامل جديدة على الملفّ، خاصة أنّه «في أيلول الماضي، تقدّمنا بطلب إفراج مشروط جديد عن جورج، وما زلنا حتى الساعة لم نتلقّ جواباً». ويبحث المحامي حالياً في نقل الملفّ إلى الدوائر القضائية الأوروبية.
الصمت الفرنسي الرسمي، قابله ارتفاع في التحركات الشعبية المُندّدة بقرار اعتقال جورج. يقول روبير عبدالله إنّ التحركات تتصاعد «ببطء ولكن بانتظام، أكان عبر التضامن الشعبي أم الرسائل التي يوجهها نواب إلى الإليزيه لإطلاق سراح جورج. يُمكن القول إنّه إلى حدّ ما، بدأ الموضوع يتحوّل إلى قضية رأي عام في فرنسا». وفي هذا الإطار، يقول أحد مؤسّسي «الحزب الجديد المناهض للرأسمالية (NPA)»، آلان بوجولا، إنّه في السنوات السابقة «كنّا نعاني من حملات ترهيب، والتضليل الممارس ضدّ جورج وعائلته في الصحافة الفرنسية. حالياً، ما زالت المشاركة في التظاهرات واللقاءات ضئيلة نسبياً، ولكن نجد أنّها مُنتشرة في العديد من المدن الفرنسية». بوجولا هو مؤسّس «تجمّع تحرير عبدالله» يعتبر في حديث مع «الأخبار» أنّ «الكرة في ملعب اللبنانيين الذين عليهم أن يستغلوا علاقاتهم مع الإدارة الفرنسية والضغط لإطلاق السراح».
أبسط قواعد العمل الدبلوماسي والعلاقات الدولية، تفرض أن يُعلّق لبنان أي تعاون مع باريس قبل حلّ قضية عبدالله… إذا كان مُلتزماً بالإفراج عنه عبر استخدام الوسائل «الشرعية». لا أن يُسمح لماكرون باستعادة «أمجاده الاستعمارية»، ويتصرّف كما لو أنّه أهلٌ لإطلاق مُبادرات «إنقاذية» والتهديد بعقوبات سياسية وتعيين وزراء ومسؤولين رسميين، خاصة أنّ ماكرون يُمثّل استمرارية للعقلية الفرنسية الخانعة أمام مصالح «إسرائيل». لا يزال يتردّد صدى خطابه في «المعهد العالي للأعمال – ESA» قبل انتخابه رئيساً سنة 2017، حين أعلن من بيروت أنّه «ضدّ اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية من دون اتفاق سلام بين الطرفين، وضدّ ممارسة أي ضغط على اسرائيل». جورج غير مُتهم بتنفيذ أي عملية ضدّ مواطنين فرنسيين، ولكن لأنّ نضاله كان بوجه قوى الهيمنة والاستعمار ودفاعاً عن الشعوب، ستبقى «جريمته» غير مغفورة لدى «ورثتهم».