تحلّ الذكرى الخامسة عشرة لاستشهاد القائد الوطني الكبير، الأمين العام الأسبق لـ”الحزب الشيوعي اللبناني”، ولبنان يترنّح في خضمّ أزمة مالية اقتصادية اجتماعية غير مسبوقة، منذ أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها في العام 1989، أزمة تُهدّد ليس فقط ودائع اللبنانيين ومدّخراتهم، بل هي أفقدت أكثر من نصف اللبنانيين مصادر رزقهم، وتكاد تُطبق على ما تبقّى من موارد لدى نصفهم الآخر، وبات الجوع يطرق الأبواب. ونتيجة لذلك، تتّجه البلاد إلى فوضى عارمة تُهدّد اللبنانيين ليس فقط بلقمة عيشهم، بل بأمنهم ووجودهم.
كم كنت رؤيوياً ومُتبصّراً يا رفيق “أبو أنيس” لمستقبل لبنان، في مواقفك ومبادراتك التي يفتقدها اللبنانيون اليوم، ففي تعليقك على إتفاق الطائف في العام 1989 كنت قد قلت حرفياً: “إن لبنان بعد الطائف أمام احتمالات ثلاثة: إما أن يُراوح مكانه، أي أن يُعيد إنتاج نظام مأزوم، أو أن يستبدل هيمنة طائفية بأخرى من ذات النوع، أو أن تنطلق الجهود لبناء وطن العدالة والمساواة، عبر وضع آلية منهجية لإلغاء الطائفية السياسية”.
انت بيننا حين يتعذّر اللقاء
ولم تتوانَ يا رفيق جورج، عن إقران أقوالك بالأفعال، فبادرت، وأنت ما زلت في موقع الأمين العام لـ”الحزب الشيوعي اللبناني”، وأحد قادة جبهة “المقاومة الوطنية اللبنانية” وأحد مؤسّسيها، إلى ولوج خيار بناء وطن العدالة المساواة، عندما قرّرت طَي صفحة الحرب الأهلية المشؤومة، بتسليم سلاح “الحزب الشيوعي” للدولة اللبنانية، وبإعلان نقد ذاتي باسم الحزب، عن مساوئ انخراط الحزب ودوره في الحرب الأهلية. وبادرت، في خطوة جريئة أردتها أن تكون محفّزاً لأفرقاء الحرب الآخرين، عندما تجاوزت متاريس الحرب، وتقسيم بيروت إلى شرقية وغربية، ونظّمت حفل إستقبال لسفير الإتحاد السوفياتي في لبنان ألكسندر اليتشيف آنذاك في كازينو فوار إنطلياس، “المنطقة المُصنّفة في حينه بقاموس الحركة الوطنية بالإنعزالية”، ولم يكن قد مضى بعد أكثر من ثلاثة أشهر على اتفاق الطائف، حيث أطلقت مُبادرتك الشهيرة بالدعوة إلى المصالحة الوطنية، إنطلاقاً من ضرورة مراجعة جميع أفرقاء الحرب الأهلية لتجاربهم فيها، كي يتأسّس البناء الجديد للدولة اللبنانية وِفق اتفاق الطائف، على قاعدة تفاهمات صلبة وعقد اجتماعي، يحظى بقبول الجميع ويأخذ العبر من تجارب الماضي، وألا تقتصر تلك المصالحة على بُعدها العشائري التبسيطي فتنقضي ببوس اللحى، وتبقي النار مُتأجّجة تحت الرماد.
ولم تكتفِ، يا رفيقي العزيز، بإعلان الدعوة للمصالحة الوطنية، بل بادرت على الفور إلى زيارة غدراس والتقيت بالدكتور سمير جعجع، باعتباره قائد الفصيل الأساسي الذي مثّل الفريق الآخر في الحرب الأهلية، بينما للأسف، لا تزال القيادات المُتعاقبة على قيادة “الحزب الشيوعي” حتّى يومنا هذا، تأنف الإجتماع مع قيادة “القوات اللبنانية” ومع غيرها من القوى السياسية، لأنها ما زالت في قاموسهم إنعزالية، بينما هم يدّعون في الوقت نفسه الدعوة الى الوحدة الوطنية!!!!
ولكن كيف كان ردّ نظام الوصاية على مُبادرتك تلك، وكيف تعامل مع موجبات تطبيق إتفاق الطائف؟
1 – كرّس نظام الوصاية في صيغة حكم الترويكا من خارج الدستور وعلى حسابه.
2 – زُجّ بجعجع في السجن، وأبعد القيادات المسيحية الفعلية عن المسرح السياسي واستبدلها بدُمى، أمثال مهى الخوري أسعد التي انتُخبت نائبة بأربعة وأربعين صوتاً وسواها وووو…. وساد لوقت طويل بسبب ذلك ما عُرف بالإحباط المسيحي.
3 – أُبعد الحزب الشيوعي اللبناني عن لوائح البوسطات والمحادل، وجرت محاصرة دوره في الحياة السياسية والنقابية وفي المقاومة ضد الإحتلال الإسرائيلي، لأنه خرج عن طاعة الوصي بمبادرة جورج حاوي للمصالحة الوطنية.
4 – أعاد لبنان إلى المربّع الأول الذي حذّرت منه مراراً وتكراراً، وهو استبدال هيمنة طائفية بأخرى من نفس النوع، وهذا ما نعيشه اليوم للأسف، حيث يقبض الثنائي الشيعي على مقدرات الحكم في البلاد، وتعطّلت آليات تطبيق دستور إتفاق الطائف، ما يُهدّد البلاد بالعودة إلى حرب أهلية جديدة، وبتنا نشهد بضوء ذلك زمن الإحباط السنّي، وما عاشه وسط بيروت ليلتي الخميس والجمعة في 11و12حزيران 2020 يشير إلى أن العيش المشترك وخيار المواطنة والدولة المدنية التي كرّسها بالنصّ دستور الطائف، وكانت المطلب الأساسي لثورة 17 ت1، ما زالت على ما يبدو بعيدة المنال، ومن غير المعروف إلى متى سنبقى بهذه الدوّامة من التناوب الطائفي والإرتباط بأجندات خارجية، وعدم الإتّعاظ من التجارب الفاشلة.
ألا تذكر يا رفيق جورج، يوم كنت قد أصبحت الأمين العام الأسبق لـ”الحزب الشيوعي اللبناني”، ولم تكن تحتلّ أي موقع قيادي، لا في الحزب ولا على المستوى الوطني، عندما استشعرت الخطر الداهم على مقاومة العدو الصهيوني من خطر تطيّفها؟ حيث، في أعقاب عدواني 1993و1996 الإسرائيليين على جنوب لبنان، وكانت جبهة المقاومة الوطنية قد حوصرت بقرار من النظام السوري وحلفائه، وأطلقت يد المقاومة الإسلامية دون سواها، استشعرت قيادة هذه المقاومة الخطر من فقدان العمق الوطني لنشاطها، ما دفعها إلى الإعلان عن تشكيل “السرايا اللبنانية للمقاومة”، في محاولة منها للخروج من هذا المأزق. ولكن، كما أصبح معلوماً، لم تأتِ تلك الخطوة ثمارها كما أراد أصحابها، وتقديراً منك لأهمية استمرار عمل المقاومة ضدّ قوات الإحتلال الإسرائيلي حتى تحرير كامل التراب الوطني المحتل، ومن أجل حماية “المقاومة الإسلامية” وإعادة تصويب مسارها في اتجاه التحرير والوحدة الوطنية، أنّك طلبت مني، بينما كانت تجمعني علاقة صداقة مع عضو المكتب السياسي في “حزب الله” الحاج محمد سعيد الخنساء، أن أُنظّم لك موعداً مع السيد حسن نصرالله، وكان ذلك في ربيع العام 1998.
وهكذا ذهبت برفقتك، والتقينا بسماحة السيد وبحضور الأخ أبو سعيد. في هذا اللقاء، شرحت وجهة نظرك حول أهمية تأمين الإلتفاف الوطني حول المقاومة وكي لا يكون تطيفها سبباً لانقسام اللبنانيين عليها، بدل أن تكون عامل توحيد لهم، واقترحت على سماحته التعاون لتشكيل مجلس أعلى للمقاومة برئاسة السيد نصرالله، وعضوية رؤساء وأمناء عامي الأحزاب التي شاركت بأعمال المقاومة ضدّ الإحتلال الإسرائيلي في المرحلة السابقة، وكذلك تلك التي لم تُشارك ولكنّها تُوافق على هذه المبادرة، واقترحت لذلك عدداً من الأسماء، منهم النائب جان عبيد والراحل المرحوم نسيب لحود، بهدف تشكيل غطاء وطني للمقاومة، والإستفادة من ذلك من أجل تأسيس قاعدة متينة للحمة الوطنية بين مختلف الأفرقاء اللبنانيين، وصولاً إلى تحقيق أهداف الشعب اللبناني في التحرير والوحدة الوطنية. كان جواب السيد حسن نصرالله: هل يسمح السوريون بذلك؟ وجلت بعد ذلك برفقتك على عدد من القيادات الحزبية المعنية بهذه المبادرة، وكنا نسمع منهم جواب السيد نصرالله نفسه. فتعطّلت مُبادرتك بتعطّل الإرادة الوطنية.
ونشهد اليوم للأسف، بعد مضي 22 سنة على مبادرتك أيها الرفيق العزيز، ما كنت قد حذّرت منه وأثار قلقك من أن تُصبح المقاومة عامل تفرقة للبنانيين، بدل أن تكون عامل توحيد لجميع أطيافهم.
ولأن المقال لا يتّسع لأكثر من ذلك، سوف أتناول مبادراتك اللاحقة لتفادي إنزلاق البلاد إلى أتون الفوضى التي حذّرت منها عشية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والتي، على ما أعتقد، أنك دفعت حياتك ثمناً لها. وكذلك مبادرتك لإصلاح الحزب وإخراجه من قوالب الأيديولوجيا إلى رِحاب العمل الوطني السيادي، المُستند إلى منهج الماركسية وليس التقوقع في قالبها، والعودة إلى عنوان الحزب الأصلي “حزب الشعب”، أخذاً في الإعتبار المُراجعة النقدية والموضوعات التي أقرّها المؤتمر السادس للحزب، وإطلاق الديموقراطية، فعلاً وليس قولاً، في حياة الحزب الداخلية، كي يستعيد الحزب عافيته ووحدته ليُشكّل رافعة حقيقية للعمل الوطني، من أجل المساهمة الفعالة في قيادة ثورة 17ت1، وتمكينها من تحقيق كامل أهدافها.
الرفيق جورج، أخاطبك اليوم وبعد خمسة عشر عاماً على غيابك، كما اعتدت على مخاطبتك وانت بيننا حين يتعذّر اللقاء، إنني بغاية الشوق لحضورك المُحبّب، حضورك الذي لم يجعلني يوماً إلا كثير الثقة بالغد، حضورك الذي جعل من المتاريس جسور تواصل بين اللبنانيين، وحول كتل الحقد الصمّاء عند الخصم، إلى لغة محكية هي أقرب إلى العقل منه إلى الغريزة. اليوم للأسف، وبعد هذه السنوات على غيابك ومبادراتك للإنقاذ الوطني، أكاد أقول انه تبخّر ما كان من عقل عند الطبقة الحاكمة، التي تريد للشعب اللبناني أن يستغرق في مستنقع الغرائز الطائفية والمذهبية، لتُتابع هي، مُطمئنة، عبثها بمستقبل البلاد والعباد. ولكن دعني أُطمئنك إلى أن ما يزرع الأمل في نفوسنا بإمكانية تخطّي المأزق الذي تعيشه البلاد، هو بروز التصميم عند العديد من أفرقاء ثورة 17ت1، ونحن في قلبها، مُستلهمين من رؤيتك لمستقبل لبنان ليكون وطن العدالة والمساواة، ومع ذلك نحن نفتقد، ولبنان الذي دفعت حياتك ثمناً لبقائه سيّداً حراً مستقلاً في دولة الحق والقانون، يفتقدك.
طوبى لك وقد ارتقى إلى جوارك وجوار القائد كمال جنبلاط، ضلعكما الثالث الرفيق القائد محسن إبراهيم، حيث مثلتم معاً مثلثاً لعب دوراً مهماً في تاريخ لبنان الحديث. وبغضّ النظر عما شابه من سلبيات، كان زمناً جميلاً بحضوركم المميز.