ستة عشر عاماً على جريمة اغتيالك حُرمنا فيها متعة مجالستك الفكرية، السياسية والاجتماعية. قراءاتك وتطلعاتك كانت تبعث فينا الأمل دائماً بدنو ساعة المستقبل الزاهي لشعبنا ووطننا الذي كرست حياتك من أجله، رغم ظلامية المشهد الذي يظلّلنا داخلياً وفي المحيطين القريب والبعيد. ولا أبالغ إذا قلت انني على مدى هذا الوقت ولم أزل، أستيقظ في كل صباح بوهم انتظار اتصال منك أو واجب الإتصال بك لنتبادل الرأي بما يدور من أحداث وما يتطلب ذلك من مبادرات، وكنت رائداً في اجتراحها ومقداماً في طرحها، وكان ينقضي ذلك بحديث تليفوني أو جلسات حوار في منزلك بوطى المصيطبة أو في مقهى الجندول في المزرعة في أغلب الأحيان أو في أماكن أخرى بالعاصمة، وكان يشاركنا في أكثر الأحيان، الرفيق مصطفى أحمد. هذا ما دأبت عليه بعلاقتي بك طيلة ثلاثة عشر عاماً منذ استقالتك من قيادة “الحزب الشيوعي”، وتمنّعي عن الترشح للقيادة في المؤتمر السابع الاستثنائي للحزب بسبب عدم تبنيه لموضوعات المؤتمر السادس ولتغيير اسم الحزب في العام 1992، وحتى آخر جلسة معك في ليل 20 حزيران في منزل الرفيق الراحل جورج البطل، وكان فيها أيضاً الرفاق كريم مروة، سمير سعد ومصطفى أحمد، وكنت أنت من استدعانا إلى تلك الجلسة لتقييم نتائج انتخابات العام 2005 النيابية، بعد انتهاء المرحلة الأخيرة فيها في دائرة طرابلس والشمال، وكأنك استدعيتنا للقاء وداعي.
21 حزيران يوم أسود في تاريخ لبنان حيث نجحت قوى الاستبداد والظلامية في النيل منك، أيها الرفيق الحبيب، فهذا دأبهم في علاقتهم مع العقول النيرة وأصحاب المواقف الجريئة. ولإغراقنا في ظلام استبدادهم القديم المتجدد قضوا على أعلام وقادة ومفكرين أمثالك من بلدنا، من فرج الحلو الى كمال جنبلاط والإمام الصدر والمفتي حسن خالد وحسين مروة وحسن حمدان، ورفيق الحريري ورينيه معوض وبشير الجميل وجبران تويني وسمير قصير وغيرهم الكثيرين…
تكريماً لك، واسترشاداً بمدرستك الفكرية والسياسية والنضالية، لا يهمني بهذه المناسبة التنديد بمن أساءوا إليك بوجودك بيننا أو بعد غيابك عنا. فأنت كنت تأنف التوقف عند ما يثار من ضجيج المواقف الزائفة، وترفض إعارة أي اهتمام لمن يتقصدون التشويه والتزوير والتجني، وجوابك الدائم في ردّك على ذلك كانت الدعوة في النظر إلى المستقبل. وعملاً بمنهجك هذا الذي أتبناه وأمارسه في حياتي اليومية السياسية والنضالية، ولتعميم الفائدة أسمح لنفسي بنشر ملخصات من أطروحاتك الفكرية والسياسية، علها تفيدنا في مسيرتنا النضالية في ثورة 17ت1 حيث أن كثراً من شيوعيين ويساريين ديموقراطيين ممن عرفوك أو سمعوا عنك يتحسّرون على غيابك، لأن في وجودك، بما تمتلكه من قدرات فكرية وانفتاح سياسي وتجربة تاريخية ناصعة النقاء الوطني والإنساني، وجرأة نضالية وحضور كاريزماتي مميز، يشكل قيمة مضافةً بالغة الأهمية للثورة.
وفي ما يلي بعض من مقولات الشهيد جورج حاوي.
– في نقده للتجربة الإشتراكية السّوفياتية يقول:
إن المدرسة السابقة للحركة الشيوعية العالمية، من نموذجها السوفياتي الأم إلى نماذجها الأخرى، قد جمدت الماركسية والفكر الماركسي، ما أدى إلى سقوط تلك التجربة التي تصدت للرأسمالية، وسميت بالاشتراكية، مقدمة نفسها بديلاً عن الرأسمالية ونقيضاً لها… وتتلخص مواقع الخلل في النظرية والتطبيق بخمسة عناوين: المجال الاقتصادي، المجال القومي، المجال الديموقراطي، المجال الروحي والثقافي، المجال السياسي المتعلق بدور الحزب.
إن الماركسية هي علم ومنهج علمي لفهم الواقع وحركته، وهي نظرية للتغيير الثوري للمجتمع باتجاه تحقيق التقدم، وهي بالتالي تاريخية، ونسبية ككل علم، تعتني بكل ما يليها (أي ما يلي كتابات مؤسسيها) من اكتشافات علمية بعضها يثبت ما اكتشفته، وبعضها يطور جزءاً من قوانينها ومقولاتها التي أعطيت في مفهومنا السابق صفة “الأزلية” و”الحقيقة المطلقة”….!!!
من هذه الخلفية، يجب “رفع وصاية” الحزب عن الماركسية، و”رفع احتكار” طبقة معينة (الطبقة العاملة ) لها، فهي كعلم تصبح ملكاً لكل المجتمع وللإنسانية جمعاء.
– في نظرته للوضع السياسي:
…إن تغيير مفهومنا للثورة، وللعملية الثورية الذي نجم عن المستجدات الحاصلة في الوضع الدولي والمنعكسة على مستوى الفكر والسياسة ونسبة القوى، وفي ظل الخلل الخطير في نسبة القوى على الصعيد العربي في غير صالح حركة التحرر العربية، أصبح من قبيل الانتحار للقوى الوطنية اللبنانية أن تأمل في تحقيق منجزات ديموقراطية إضافية مع استمرار الحرب الأهلية. لقد أصبح الحفاظ على ما تم إنجازه في اتفاق الطائف يعتبر مكسباً كلياً. لقد قدم اتفاق الطائف الحد الأدنى الضروري من مواصفات الحل الوطني للأزمة، وبات كل طموح في تغييره نحو الأفضل من خلال جولات جديدة من الحرب الأهلية طموحات في غير محلها. حيث إن تجدد الحرب الأهلية كان يغذي باستمرار العوامل الخارجية للأزمة على حساب العوامل الداخلية، فيزيد من خطر تفتيت البلاد.
يجب أن نستمر على دعوتنا إلى التطبيق الصحيح لاتفاق الطائف في مواجهة النهج الفئوي والطائفي الذي طبع تطبيقه حتى الآن، وإلى تخطي الطائف نحو مجتمع مدني علماني ديموقراطي غير طائفي، يشكل وحده الضمانة لكل فئات وجماهير وطوائف لبنان بديلاً عن نظام الطائفية السياسية، الذي سيؤدي استمرار التمسك به إلى استبدال سيطرة طائفة معينة بسيطرة طائفة آخرى… وإلا إننا سنقع ببساطة في إحدى حالتين متطرفتين، تدعو واحدتهما إلى إلغاء الطائف حرصاً على الامتيازات التي سقطت وولى زمنها (حالة عون وجبران اليوم)، وتدعو الثانية إلى جعل إلغاء الطائفية السياسية مناسبة لإلغاء سيطرة طائفة معينة وتكريس سيطرة طائفة أخرى من منطق الكثرة العددية… (حالة الثنائي الشيعي اليوم).
يجب أن نتمسك “بشعاراتنا الأهداف الأساسية” الأربعة:
أ- توطيد السلم الأهلي وتحقيق المصلحة الوطنية.
ب- تحقيق السيادة الوطنية، بدءاً بطرد الاحتلال الإسرائيلي عن أرضنا وصولاً إلى بسط السلطة الشرعية الوحيدة على كامل الأراضي اللبنانية، ليتولى الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي مهمة الدفاع عن سيادة لبنان والإشراف على الأمن فيه.
ج- الدفاع عن الحريات وتعزيز الديموقراطية في كل مضامينها وفي جميع نواحي الحياة اللبنانية، والنظام السياسي اللبناني…
د- السير على طريق العدالة الاجتماعية والتقدم.
– في البديل للسلطة الحاكمة:
المثابرة على العمل لبناء معارضة وطنية تقارع السلطة على أساس ديموقراطي، غير طائفي، ولا تقع في مطب الطروحات والممارسات المعمقة للشرخ الطائفي.
ما كتبته في الفقرات الثلاث: الفكرية، السياسية، البديل، هو مقتطفات من مداخلات الرفيق الشهيد جورج حاوي في المؤتمر السادس لـ”الحزب الشيوعي اللبناني” في العام 1992.
كم كنت رؤيوياً وكأنك تعيش لحظتنا المأسوية وترسم بدقة سبل علاج مأزقنا السياسي.
نم قريرالعين يا رفيقي وصديقي الحبيب، سوف نتابع الدرب على خطاك مزودين بمعينه الفكري والسياسي والنضالي والأخلاقي الذي لا ينضب، ومتماهين بقوة التزامك الخيار الوطني والإنساني.
لذكرك المجد والخلود أيها الرفيق القائد، والخزي والعار لقتلتك ولمن حرّض وخطّط لارتكاب جريمة اغتيالك النكراء.