IMLebanon

بين جورج حاوي وحنا غريب الحزب الشيوعي والدولة

 

يستغرب المشاهد لماذا رفع حنا غريب نبرته في وجه محاوريه ليذكّرهم بيوم الشهيد الشيوعي، يوم اغتيال جورج حاوي. وسرعان ما زال الاستغراب إذ بدت نبرته العالية تغطية على تهربه من تحديد هوية القاتل.

 

لا أقصد أن أدين الرفيق حنا أو أن أهينه، بل تذكرت أجوبة جورج حاوي على السؤال ذاته بعد كل اغتيال كان يتعرض له مقاوم أو قائد شيوعي. في تأبين حسن حمدان مهدي عامل، قال جورج، ليس شيخاً من أفتى باغتيال مهدي بل حاخام. جورج كان أكثر بلاغة من حنا وأكثر مهارة في فن المناورة. في تأبين حسين مروة لم يتهم أحداً بل بارك لشيخ الشيوعيين لأن الاغتيال أنقذه من موت عادي على فراش المرض ورفعه إلى مصاف الشهداء. لكن الحزب الشيوعي حدد هوية القتلة بالقرينة حين قرر دفن رفاة حسين مروة، لا في قريته الجنوبية حاريص، بل في حرم السيدة زينب في دمشق، ورفاة مهدي عامل، لا في مقابر الشيعة في الضاحية، بل على بعد أمتار منها، أي في مقبرة الشهداء، وهي مخصصة لأموات أهل السنة.

 

ظهور حنا غريب أميناً عاماً للحزب الشيوعي على الشاشة، وهو مقل إعلامياً، يفرض على المشاهد فرضاً إقامة مقارنة مع إطلالات جورج حاوي المكثفة. جورج كان مالئ الشاشات وكان لديه ما يقوله لأن الحزب في ظل قيادته كان لديه ما يقوله. لم تكف حلقة واحدة مع الإعلامية المرموقة جيزال خوري في برنامجها حوار العمر، الأمر ذاته تكرر مع المبدع زياد الرحباني إذ أطل معها، هو الآخر، في حلقتين.

 

جورج حاوي كان يتعامل مع الأفكار بمنطق المؤسسات الاستثمارية الكبرى فيما تعامل الخلف بمنطق الدكنجية. جورج أتقن صناعة الأفكار فيما اكتفى الآخرون بالترويج للأفكار الجاهزة. هو حوّل الحزب إلى مؤسسة عملاقة تعرف حاجات السوق النضالية بينما عادوا هم إلى البيع بالمفرق، وإن استخدمنا مفرداته، كان يصطاد بالشبكة فيما عاد الآخرون إلى حرفة الصيد بالصنارة.

 

كان يعرف متى يكر ومتى يفر فيما ظلوا متمترسين على جبهة غادرها الأعداء، يطلقون النار في الهواء على عدو افتراضي صنعته السياسة السوفياتية وعممته على أحزاب الأممية الثالثة. بعد انهيار السفينة الأممية قرر جورج أن يتحرر من أثقالها ويعود إلى الشاطئ ليبني سفينته النضالية فيما أصر خلفه على البقاء في السفينة ذاتها يرجو السلامة بالأناشيد والأدعية النضالية القديمة. الحزب في أيامه رب عمل في مؤسسة عملاقة، بعده صار ملتزماً في الباطن، ويعمل عند رب عمل، حتى حق فيه القول، حزب شيوعي لصاحبه حزب الممانعة.

 

كتبت باسمه وصية افتراضية توجهت فيها لقيادة الحزب بالقول، إن أي طرف سياسي يمكن أن يكون حليفاً في أمر وخصماً في آخر. الثورة الفلسطينية كانت حليفاً ضد الصهيونية وخصماً في موقفها من القضية اللبنانية. سوريا حليف في مواجهة الإمبريالية وخصم كنظام وصاية. “اليمين” اللبناني خصم في موقفه من القضية الفلسطينية وحليف في الدفاع عن السيادة الوطنية في مواجهة نظام الوصاية. لم يأخذوا بالنصيحة، ولم تسعفهم مفردات النضال القديمة في تفسير ظاهرة الاغتيال التي ذهب ضحيتها قادة في الحزب وفي المقاومة الوطنية، فظلوا ينشدون السلامة مع أصدقاء لدودين في جبهة الممانعة.

 

لم يأخذ الورثة بنصيحته في المؤتمر السادس حين قال لهم إن منهج التفكير أهم من الأفكار. فظلوا مصرين، بالأفكار القديمة ذاتها، على خوض المعارك في ساحاتهم الضيقة ضد رفاقهم الشيوعيين وضد حلفائهم الطبيعيين وحلفائهم المحتملين. بعد استقالته بقليل، وفي ظل أمانة فاروق دحروج، ولأول مرة في تاريخ الحزب، تقرر فصل اثنين من القادة النقابيين وخمسة وعشرين مهندساً، ذنبهم أنهم اختاروا المنهج لا الأفكار حين انخرطوا في قضاياهم النقابية الملموسة، فيما ظلت القيادة تهيم في معاركها الكبرى الدونكيشوتية ضد “الامبريالية والاستعمار والصهيونية”.

 

نضالية الورثة ليست محل شك، لكن ذنب حاوي أنه رسم صورة للقائد لم يتمكن سواه من تقليدها أو الحذو حذوها، على الأقل في أمرين اثنين. كان مبدعاً وخلاقاً في مبادراته لتجميع القوى وتوسيع الأطر لتحسين شروط المواجهة، هذا ما فعله من موقعه كأمين عام أو كشخصية وطنية خارج الأمانة العامة. تخيلوا أن الأمين العام الثاني من بعده، خالد حدادة، هدده بفصله من الحزب إن هو دعا الشيوعيين إلى توحيد موقفهم في الانتخابات النيابية.

 

من ناحية ثانية كان ذا قدرة استثنائية على التكيف مع المتغيرات، وهذا ما يعنينا في الكلام عن الدولة. من داخل علاقته الوطيدة بالنظام السوري، واجه نهج الوصاية. نظام الوصاية لم يكن همّه تطبيق اتفاق الطائف بل إحكام القبضة من خلاله على الوضع اللبناني. بيان جمول التاريخي الموقّع من القائدين اليساريين جورج حاوي ومحسن ابراهيم لم يكن فحسب دعوة لمقاومة المحتل، بل انطوى على نهج ضمني للدفاع عن السيادة الوطنية ولتحصين الجبهة الداخلية اللبنانية ضد كل تدخل خارجي. من أجل ذلك طوى صفحة الخصومة مع القوات اللبنانية وأزال الحواجز بين الشرقية والغربية وعمل على توحيد الوطن تحت راية الدولة والدستور الجديد. كان هذا الموقف السيادي أحد أسباب اغتياله. لهذا بالضبط لا يملك الأمين العام الثالث، حنا غريب، القدرة ولا الرغبة في تحديد من اغتال جورج حاوي وسائر القادة والمقاومين.

 

الحزب الشيوعي حاجة لبناء يسار جديد. واليسار الجديد حاجة لانتصار الثورة واستعادة السيادة الوطنية وإعادة بناء الوطن والدولة. على الشيوعيين أن يستعينوا بصفحات مشرقة من تاريخهم الناصع ليتمكنوا من الخروج من أزماتهم المستفحلة. انهارت الحركة الشيوعية لكن الشيوعيين ما زالوا بخير، وبإمكانهم أن يتكيفوا مع الوقائع والمستجدات، وعلى رأسها أنّ الدولة هي الحل لمشكلاتنا الوطنية والقومية، وأن الدولة هي السبيل إلى معالجة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن الدولة هي المعيار في بناء التحالفات، وأن اليساري اليوم هو من يناضل في سبيل إعادة بناء الوطن والدولة لا في سبيل الاشتراكية أو الوحدة العربية، وأن مفردات “الوطنية والإسلامية” أو “قوى الممانعة” باتت رديفاً للاستبداد وتذكرنا بماض مؤلم مضى، مليء بالحروب والاغتيالات وسفك الدماء.