في الساعات التي تلت نبأ انتحاره، كانت الصورة الوحيدة المتداولة لجورج زريق، هي «سيلفي» من النوع المستهلك. أحد تلك الكليشيهات التي يلتقطها الأهل مع أبنائهم في يوم الإجازة. رجل ملتحٍ في عقده الخامس، قلق بعض الشيء، إنما مكابر، يقطّب حاجبيه مركّزاً على الكاميرا، وإلى يساره طفلة تطبع قبلة على خدّه، وتبتسم بـ«شقاوة» وهي ترمق العدسة من طرف عينها. لحظة نادرة، ربّما كانت الأخيرة من نوعها تجمع الابنة وأبيها، ستدوم الآن إلى الأبد. فيها يبدو جورج مكتفياً بالأشياء الصغيرة التي تتيحها له الحياة: قبلة من ملاكه تجعل العالم نعيماً. ترى بمَ كان يفكر لحظة التقاط السلفي؟ لعلّه كان يقطع العهد على نفسه بأنه سيفعل المستحيل كي تنعم هي وأخاها بحياة أفضل من حياته. فكّر أن المصاعب التي يعانيها «مثله مثل كثير من الناس» في هذه الأزمنة الصعبة، سيجد طريقة للتغلّب عليها. كل ذلك نراه في الصورة، ونرى مصيره المفجع. الصور، أحياناً، كقارئات البخت، تحكي لنا ما سيأتي… لكنّنا لا نلتقط إشاراتها إلا متأخرين. بعد وقوع الفاجعة.
هذه اللقطة العائليّة السعيدة، باتت الآن استثنائيّة. تنضح بما كان محشوراً في الصدر، ومخبأً في زوايا البيت المظلمة، بعيداً عن عدسات التلفزيون وفضول الصحافيين. الآن صرنا نعرف: جورج شبه عاطل عن العمل. ومع ذلك، فهو مصرّ على تأمين أفضل مستوى تعليم ممكن لولديه. «أفضل مستوى تعليم»، يعني، بالنسبة إلى أبناء الشعب والطبقات الوسطى، التعليم الخاص، ومدارس الإرساليات الدينيّة. فالمدرسة الرسميّة هي القصاص الذي لا يتمناه أحد لأبنائه. ما همّ أن يكون قطاع التعليم الخاص قد تحوّل في أحيان كثيرة إلى دكاكين، على شتّى المستويات، من الابتدائي إلى الجامعي. التعميم مرفوض طبعاً، لكنّ أكثريّة المؤسسات التعليمية إزدادت شراهة، والأقساط واصلت ارتفاعها (الحق على الوضع الاقتصادي يقول القيّمون عليها)، ومستوى التعليم آخذ في التراجع. «مستوى التعليم» الذي كان يقال لنا صغاراً إنّه الثروة الحقيقية للبنان، بلد «تصدير الأدمغة» إلى العالم. التعليم، ثروتنا القوميّة الحقيقية (الى جانب قطاع الخدمات طبعاً!) صار في الحضيض. «بلد ليس فيه مواد أوليّة»، حسب عبارة شهيرة، يردّدها كالببغاء رشيد، بطل زياد الرحباني، في «فيلم أميركي طويل». كان ذلك قبل النفط والغاز. الآن، سيصبح عندنا مواد أوّليّة، لكننا لن نرى من عائداتها إلا خراب ما بقي من الاقتصاد المنتج على الأرجح. النسبة الأكبر من الأرباح ستذهب للشركات الأجنبيّة، وإذا أضفت إليها كوميسيون بارونات النظام اللبناني، بالكاد سيكفي الباقي لخدمة ديوننا المتعاظمة، في بلد ديانته الرسميّة هي الاستدانة، أي المضيّ قدماً في إفقار الشعب، وبيع القطاع العام الذي يضمن حقوقه ومستقبله ورخاءه.
في هذا البلد، عاش ومات جورج زريق الذي آمن بأن التعليم هو الثروة التي سيتركها لولديه. بلد لم يعد التعليم في مدارسه الخاصة يؤمّن فرصاً للارتقاء الاجتماعي. ومع ذلك، لا يزال الناس يركضون خلف السراب. يعملون بالسخرة ويستدينون ويرهنون الأملاك من أجل علم الأولاد. كأن عاطلاً عن العمل يحمل شهادة، هو أفضل من عاطل أمّي أو بلا شهادة! نقل الأب ابنه إلى مدرسة أقل كلفة، وبقي مصرّاً على إبقاء الصغيرة في «ثانويّة سيّدة بكفتين الأرثوذكسية». ترك الأقساط المتأخّرة تتراكم، على أمل حلّ سحري لا نعرفه. أن يتلقّى مساعدة؟ أن تحدث أعجوبة؟ أن يربح في اليانصيب؟ أن ينبش كنزاً؟… أو بكل بساطة أن يجد عملاً، كما هو حق كل مواطن في البلد «الذي علّم الأبجديّة للعالم». المدرسة في بيانها التبريري بعد انتحار جورج، تقول إنّها أعفته من الأقساط منذ 2014، ما تنكره العائلة. أيكون الرجل قد وضع حدّاً لحياته كي يشكر المدرسة على جودها مثلاً؟ وماذا عن الاعتراف الذي يرد في بيان المدرسة نفسه، بأنّها مارست ضغوطاً متكررة على الأهل المقصّرين في الدفع، من خلال «نداءات خطية متتالية»؟ في كل الأحوال، اقتنع الأب أخيراً بأنه لم يعد أمامه سوى أن يفعل مثل آلاف العائلات اللبنانية التي نقلت أولادها أخيراً من التعليم الخاص إلى مدارس الدولة، بعدما ضاقت بها سبل العيش الكريم، وعزّت الفلوس: خَلَصْ، سينقل أميرته الصغيرة إلى مدرسة رسميّة! لم يكن يحتاج سوى إلى إفادة مدرسيّة. عائلة جورج تؤكّد أنّه كان قد هدد مدير المدرسة بوضع حدّ لحياته، إذا بقي الأخير مصرّاً على حجب الإفادة ما لم تسدد الديون سلفاً، لا بالتقسيط، حسب تعهّد رسمي، كما اقترح الأب القتيل.
الباقي نعرفه جيّداً. «المواطن جورج زريق أحرق نفسه أمام مدرسة ابنته»، معلناً عجزه عن مواصلة المواجهة. حاول الرجل كثيراً، وكان في كل مرّة يصل إلى طريق مسدود. هذه المرّة قرر أن يوقف المحاولات، أن يرمي سلاحه ويستسلم. وما إن أطلق جورج صيحته الاجتجاجية المدوّية التي هزّت لبنان، حتى انتشرت السموم بلمح البصر: «معلومات طبية» (لا أحد يعرف مصدرها) تؤكّد أن «جورج كان يعاني من وضع نفسي صعب»! من كان يتوقّع العكس؟ أما زال في لبنان مواطن واحد طبيعياً؟ يريدون أن يسرقوا منه حتّى موته، أن يزوّروا وصيته، أن يحجبوا دعوته الصارخة إلينا كي نصحو قبل فوات الأوان… فنحمل جذوة النار المقدسة التي تطهّر بها، ونحرق هيكل النظام الطائفي المافيوي الذي يحاصر الدولة والشعب.
هذه النهاية المأسويّة تقول كلّ شيء. هناك شعب كامل في لبنان عاطل عن الحياة، محروم من الأمل، ممنوع من المستقبل. شعب محاصر، ينزلق كل يوم أكثر إلى الهاوية، يغرق في المجارير، تطمره الزبالة، تنهار عليه الطرقات والجسور، تجرفه السيول، تحاصره الأمراض والسموم والأوبئة في الماء والهواء، تقفل بوجهه أبواب المدارس والمستشفيات… فيما الفساد والهدر مستشريان، والمؤسسات منخورة بسرطان المحسوبيات والزبائنيّة، والثراء الفاحش يتكدّس بين أيدي حفنة من الأباطرة الذين يعتاشون من سفاح القربى بين السلطة والمال، ويسخّرون المؤسسات على اختلافها من أمنية وقضائيّة ورقابيّة واقتصاديّة وماليّة وتربوية وإعلاميّة… لحماية مصالحهم وديمومة سلطتهم. وفي آخر النهار، ها هو الوزير السابق الذي باع تراث بيروت لبرابرة الاستثمار العقاري، يسْخر بخفّة وفوقيّة وازدراء من مواطنة تشكو الأوضاع الاقتصاديّة في برنامج تلفزيوني: «ما مبيّن عليك جوعانة»!
لعل أكثر ما يبعث على السخط والاشمئزاز، بعد فاجعة انتحار جورج زريق أمام مدرسة ابنته التي لا يملك تسديد أقساطها، هو ردود فعل أباطرة النظام ومعارضي التنك، التي تعكس قدراً مخيفاً من قلّة الحياء. بدلاً من أن يصمت هؤلاء، أن يختفوا عن الأنظار، ها هم يتاجرون بدمه، ويزايدون على موته. ها هم يتصدّرون الجنازة، ويتقبّلون التعازي بالرجل الذين ساهموا مجتمعين وفرادى في قتله. ها هم يطالبون بالعدالة الاجتماعيّة، الآن وهنا! وزير التربية أمر «بفتح تحقيق لجلاء الملابسات المحيطة بالحادثة»، وأعلن أنّه سيتولى تعليم ولدَي جورج زريق. «حزب سبعة» دعا، بديماغوجيّته اللزجة، إلى «غضب الأهالي» أمام وزارة التربية، كأنّ الانهيار سيتوقّف بسحر ساحر، كما في الأوبريت الرحبانيّة…
جورج شعب كامل من المرشحين لنهايات فاجعة. وعندما يحاصر اليأس الناس إلى هذا الحد، لا يعود أمامهم إلا الانفجار الكبير. حين أحرق يان بالاخ نفسه في 19 يناير 1969، كان يعلن ولادة «ربيع براغ». ولمّا أضرم محمد البوعزيزي النار في جسده، يوم 17 ديسمبر 2010 في سيدي بوزيد، كان يطلق شرارة التغيير في تونس. ماذا ينتظر اللبنانيون؟ عشيّة انطلاق عمل الحكومة الجديدة التي تدل كل المؤشرات على أنّها ستمضي في إفقار الشعب وإغناء مصاصي الدماء. الطبقة الحاكمة ستحمّل الأكثريّة الساحقة من الشعب اللبناني تبعات السياسات الكارثيّة التي راكمها أسياد النظام المتعاقبون، منذ الطائف وولادة الحريرية السياسيّة إلى الأزمة الحاليّة. فهل نبقى، بعد فاجعة الكورة، شعباً يمضي إلى قبره مطمئناً؟ أم نرفع قبضاتنا خلف تابوت جورج زريق، نجرد قتَلَته من إقطاعيّاتهم، وننتهرهم أن: اخرجوا من الجنازة!
من ملف : جورج زريق… الهارب من الجحيم