لا تغيب الحيوية في كلّ من أنقرة وطهران السّاعيتين لتعزيز مجالهما الحيوي وتأكيد حضورهما. تركيا التي أغلقت الباب نهائياً على محاولات الإلتحاق بأوروبا، واستدارت مع حزب العدالة والتنمية نحو العالم العربي ساعيةً لتؤكّد حضورها كدولة إسلامية دون إهمال المجال الحيوي الأوروبي الذي تقارعه كإحدى القوى الإقتصادية الرئيسية في العالم. وإيران التي قررت منذ انطلاق الثورة الإسلامية الإستدارة نحو العالم العربي وامتحان قدرتها على السيطرة متوسّلة مذهبة قضيته الأساسية والعبث باستقراره، لا تنفك،بالرغم من وضعها الميداني المأزوم في اليمن ومن تطبيق العقوبات الإقتصادية الأميركية عليها، عن إطلاق المبادرات بالواسطة عبر الساحات التي استباحتها.
تطور مؤكّد يحسب لأنقرة على الساحتين الإقليمية والأوروبية ومحاولة فاشلة تُحسب على طهران على الساحة العربية رُصدا خلال الأيام القليلة المنصرمة، لا بدّ من التوقّف عندهما:
1- إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالأمس من اسطنبول، في كلمة مشتركة مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان أنّ مشروع الطاقة «السيل التركي» سيحوّل تركيا مركزاً للتخزين وعقدة لضخ الغاز الروسي إلى جنوبي أوروبا ووسطها، مما يعزز مواقع أنقرة الجيوسياسية في المنطقة. جاء ذلك خلال الإحتفال بإنجاز أكثر من 1800 كلم من الأنابيب، هي الجزء البحري من أنبوب لنقل الغاز الروسي عبر البحر الأسود إلى تركيا ومنها إلى أوروبا.«السيل التركي»، مشروع لمدّ أنبوبين بقدرة 15.75 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً لكلّ منهما، من روسيا إلى تركيا ومنها إلى أوروبا عبر البحر الأسود، على أن يغذي الأنبوب الأول تركيا، والثاني دول جنوب شرقي، وجنوبي أوروبا،ومن المتوقع الإنتهاء من بنائه في 2019.
الأنبوب التركي سيعيد تأكيد السيطرة الروسية على السوق الأوروبية للغاز، دون شروط غربية ومن بوابة تركيا هذه المرة التي سيتعزز حضورها الإقتصادي في أوروبا. على المقلب الشرقي للمتوسط يدخل الدور الغازي لتركيا كمنافس جدّي بل كبديل لا يمكن الإستغناء عنه لتسويق الغاز من كلّ من لبنان وسوريا وقبرص وإسرائيل نحو أوروبا، هذه الدول التي تعثّرت حكوماتها في إطلاق مسارات التنقيب والإستخراج.
2-الإقتراح الذي حملته قطر نيابة عن طهران لتشكيل تحالف خماسي في المنطقة يضمّ إيران وتركيا وسوريا والعراق وقطر،في محاولة للإلتفاف على العقوبات الأميركية واستخدام أسواق ومصارف هذه الدول لفك العزلة عن الإقتصاد الإيراني. يذكّرنا التحالف، برغم إختلاف الظروف والأدوار، بـ «حلف بغداد» وهو ليس سوى محاولة جديدة تقودها إيران للعبث بالمجال الحيوي العربي. الفروقات بين الحلفيّن هي إنتقال سوريا وقطر الى محور غيرعربي ووجود الولايات المتّحدة في المحور المقابل. أما حجر الأساس في التّصدي للمقترح الإيراني وإفشال الحلف فهو الموقف العراقي الرافض في أوساط العديد من الكتل السياسية،أبرزها«تحالف سائرون» بقيادة مقتدى الصدر الذي شدّد على علاقات متوازنة مع دول الجوار بعيداً عن المحاور الدولية والإقليمية.
3- أما في لبنان، فمقابل الحراك الجيوسياسي الإقليمي، نموذجان الأول في بيروت والآخر في نهر الكلب. أكّدت العاصمة التي غرقت منذ أيام قليلة بالمياه الآسنة، وغرقت قبلها بالنفايات على استشراء الفساد وغياب القانون والمحاسبة وانعدام المسؤولية.ما جرى ليس جديداً،مهما حاول نواب العاصمة إعطاء الموضوع من جديّة، وهو لا يقتصر على فيضان المجارير، فالمخالفات والإرتكابات على الواجهة البحرية للعاصمة وفي شوارعها ومبانيها وأرصفتها، ترتكب يومياً وهي ليست خافية على أحد. واللبنانيون يدركون كما المسؤولون جميعهم، رؤوساء ووزراء ونواب وقضاة ومحافظون ورؤساء بلديات من باستطاعته القفز فوق القانون ومن يقف وراءه ولماذا لم يحاسب أيّاً منهم.
في نهر الكلب، إستفاضة أمام لوحة الجلاء في نهر الكلب من قِبَل وزير الخارجية جبران باسيل، تعذّر فهم أسبابها أو وضعها في سياق سياسي وتوظيفها في موقف. السؤال المشروع هل ما قاله الوزير هو تخليد لدور ما نجهله للتيار الوطني الحر في استصدار القرار الدولي 1559 وانسحاب القوات السورية من لبنان؟وهل يتّسق ذلك مع دعوات التيار المتكررة لتطبيع العلاقات مع النظام في سوريا وتحالفاته مع حزب الله ؟ ألا يدري الوزير باسيل أنّ اللبنانيين لا زالوا يرزحون تحت وطأة النفوذ السوري نتيجة استباحة الحدود والمرور غير الشرعي للأشخاص والمنتجات الزراعية والبضائع القادمة من مرفأ بانياس؟
هل نصدّق الوزير بأنّ المحتل قد انسحب فعلاً، وأنّه سيطلب من نظيره السوري تشكيل لجنة مشتركة لبنانية سورية لترسيم الحدود؟
في إيران وتركيا حراكٌ في الجيوستراتيجيا وفي لبنان فسادُ وهذيان سياسي!