IMLebanon

عملية «تسلّل» ألمانية في «منطقة الجزاء» الدولية!؟

 

 

خلافاً للقاعدة التي تقول «ليس كل ما يلمع يعني ذهباً»، يمكن توصيف دور المخابرات الألمانية في العالم. فهي من القوى الخفية الفاعلة التي عملت وتعمل في ظلّ الاعتقاد السائد بأنّ الأدوار الكبرى مناطة بأجهزة الدول الخمس التي تملك «الفيتو» في مجلس الأمن. ولهذه المعادلة ما يثبتها في عدد من الازمات الدولية، وخصوصاً في الشرق الاوسط. والدلائل الى هذين الدور والمهمّة كثيرة، وهذه عينة منها.

تعتقد مراجع ديبلوماسية واستخبارية أن ليس من الجيد أن يتعزز الاعتقاد انّ أقوى اجهزة الاستخبارات هي التي ترتبط بالدول العظمى التي يمكنها ان تجنّد لها قدرات مالية وتقنية خارقة، كتلك التي عمّمتها ثقافة «الأفلام الهوليوودية»، ذلك انّ هناك أجهزة مماثلة في دول عدة لا تقلّ شأناً. ولكنها تصرّ على سرّية عملياتها وتتقّصد إخفاءها، سواء تلك التي نفّذتها بقدراتها الذاتية، او تلك التي ساهمت في إنجازها إلى جانب اجهزة صديقة او حليفة، وقد نسبت نتائجها الى واحدة منها، متجاهلة الآليات المعتمدة بطريقة عابرة للدول والقارات عند مواجهة ظاهرة او قوة تهدّد الأمن والسلم الدوليين.

 

على هذه الخلفيات، لا تتجاهل هذه المراجع أدوار عدد من اجهزة الاستخبارات الوطنية، التي عبّرت عن كفايات عالية في عدد من العمليات الدولية والداخلية، والتي شكّلت نموذجاً يُحتذى به في بعض العمليات الكبرى التي استهدفت رؤوساً إرهابية كبرى في أكثر من منطقة في العالم، وإن كان بعضها فرض تعاوناً بين أكثر من ثلاث او اربع دول، مع احتفاظ كل منها حتى بالأدوار المتواضعة، إن كانت ضرورية لإنجازها في أفضل الظروف المتصلة بشكلها وتوقيتها ونتائجها، عدا عن تلك التي تقتضيها عملية دقيقة ومعقّدة، لا يجوز ان تفشل بأي شكل من الاشكال، وخصوصاً إن كانت تقتضي انتقال قوة متخصصة، عليها ان تعبر اجواء دول عدة، وربما اضطرت الى استخدام قواعد عسكرية ومواقع اخرى فيها، لتسهيل كل ما يتعلق بالتحضير لها بسرّية تامة، عدا عن التقنيات الضامنة لها.

 

وإن طُلب الى هذه المراجع المزيد من التفاصيل، لا يمكنها ان تتجاهل، على سبيل المثال لا الحصر، عملية اغتيال زعيم القاعدة اسامة بن لادن فجر الاثنين 2 أيار 2011 في منطقة «أبوت آباد» في باكستان الواقعة على بعد 120 كلم عن العاصمة إسلام أباد، في عملية اقتحام أشرفت عليها وكالة الاستخبارات الأميركية بالتعاون مع أكثر من دولة في المنطقة والعالم. وقبلها كانت عملية «عنتيبي» التي نفّذتها وحدة كوماندوس اسرائيلية في 4 تموز 1976 لإنقاذ ركاب طائرة خطفها فلسطينيون أثناء توجّهها من تل أبيب إلى باريس، والتي انتهت بمقتل الخاطفين وثلاث رهائن إلى جانب عدد من الجنود الأوغنديين، وقائد القوة المنفّذة شقيق رئيس الحكومة الحالية بنيامين نتنياهو الجنرال جوناثان نتنياهو.

 

وبمعزل عن الإشارة إلى عمليات مماثلة لا يمكن تعدادها، لا يمكن تجاهل دور المخابرات الألمانية الخارجية (بي. إن. دي) في كثير من العمليات الدولية والاقليمية الكبرى التي ساهمت في إنجازها بأشكال مختلفة. لكن أبرزها واكبرها حجماً ما جرى في منطقة الشرق الاوسط، وهي تلك التي خطّطت لها وتعهّدت بتنفيذها بنَفَس طويل، عندما أنجزت بسرّية تامة اكبر عملية تبادل للأسرى بين إسرائيل و«حزب الله» مطلع تموز 2008، نتيجة جهود بُذلت على مدى عامين، احتسبت أولى التحضيرات لها إبان وقبيل نهاية حرب تموز 2006، فيما كان العالم منهمكاً بوضع حدّ لها إلى حين صدور القرار 1701 في 12 آب 2006.

 

وتأسيساً على هذا الإنجاز الذي عدّ تاريخياً قياساً الى ما انتهت إليه عملية التبادل في 16 تموز 2008، بالإفراج عن «أغلى الاسرى» سمير القنطار الذي أمضى 30 عاماً في السجون الاسرائيلية، ومعه اربعة أحياء من عناصر الحزب وجثث 199 فلسطينياً من «مقبرة الأرقام»، وكل ذلك مقابل جثتين لجنديين إسرائيليين خُطفا في 12 تموز من ذلك العام. وهو ما ادّى إلى بناء قناة عميقة من الثقة بين الطرفين ما زالت مفتوحة الى اليوم. وهو ما أعطى الزيارة الاخيرة لنائب رئيس المخابرات الألمانية الخارجية أولي ديال الى لبنان قبل أيام، ولقاءه مع نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم ومسؤولين آخرين طابعاً استثنائياً وسط تكتم شديد رافق الزيارة وما تلاها من نتائج.

 

لكن المراجع العليمة لفتت إلى انّ هذه الزيارة ليست الاولى، ولن تكون الأخيرة. فهو كان في بيروت قبل فترة أعقبت الزيارة الاولى لوزيرة خارجية المانيا انالينا بيربوك في 9 شباط الماضي، وقبل زيارته التي تلت الثانية لها في 25 حزيران الماضي، بهدف التشاور مع قيادة الحزب في ما سُمّي خفض التوتر على الحدود الجنوبية مع الأراضي الفلسطينية المحتلة ومنع الحرب الشاملة في المنطقة على خلفية منع تورط دول أخرى بعيدة عن المنطقة فيها، بما فيها ايران. والتي ربما استدرج تدخّلها قوى دولية اخرى سبق لها ان شاركت في التصدّي للصواريخ والمسيّرات الايرانية ليل 13-14 نيسان الماضي، ومنع 95% منها من بلوغ أهدافها في اسرائيل، بعد اسبوعين على الغارة التي استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق.

 

وفي انتظار معرفة الظروف التي حالت دون تحديد رئيس مجلس النواب نبيه بري للوزيرة الالمانية موعداً للقاء معها خلال زيارتها الثانية، بقي صعباً البحث في ما دار من تفاصيل في لقاءات المسؤول الألماني، فاقتصر الحديث على تسريبات ضئيلة، وقيل إنّه نقل اقتراحات تتعدّى السعي الى وقف للنار في غزة وانعكاساته المحتملة على الجنوب. وقيل انّ للزيارة أهدافاً بعيدة المدى تتخطّى ما يتم تداوله اليوم لجهة ما يسمّى «اليوم التالي» للحرب. وانّ لدى الجانب الألماني مشاريع اخرى تعني المرحلة اللاحقة التي تتجاوز ما هو مطروح على مستوى مجلس الأمن الدولي وجهود الخماسية العربية ـ الدولية من اجل لبنان ومسألة انتخاب الرئيس، لتطاول مستقبل المنطقة.

 

وأضافت التسريبات، انّ المسؤول الألماني تجنّب الحديث عن التطورات الآنية والتهديدات الاسرائيلية، مع اشارته الى انّه يعلم أنّ الخيارات الديبلوماسية ما زالت مفضّلة لدى جميع الاطراف، وانّ الضغوط الدولية ستحول دون توسع الحرب. ولكن في المقابل، على «حزب الله» ان يعزّز هذه الجهود بالتعاون المسبق مع اي مشروع لوقف الحرب في غزة، متجنّباً المطالب التعجيزية. ولذلك فقد حمل معه اقتراحات بمشاريع عدة يمكن البحث فيها لاحقاً، ومنها على سبيل المثال ما يمكن ان يكون عليه شكل العلاقات بين اسرائيل وجاراتها، وخصوصاً إن استؤنفت برامج التطبيع في المنطقة لتنحو عندها إلى سلام شامل يعزز الإعتقاد بضرورة التفكير ببناء مشاريع تعزز الثقة بين دول المنطقة واستنهاض اقتصاداتها بما فيها الدولة الفلسطينية المقبلة، ان توصل العالم الى الإقرار بـ«مشروع الدولتين» قبل ان تقول المانيا رأيها فيها.

 

وبناءً على ما تقدّم، خلصت المراجع الديبلوماسية الى استنتاج مفاده انّ هناك عملية «تسلّل المانية» تحت جنح الحراك الدولي الخاص بلبنان، في انتظار اللحظة التي تتكشف فيها خططهم لمستقبل المنطقة. فهم على اقتناع بقدرتهم على اللعب في منطقة «الجزاء الدولية»، وخصوصاً على مقربة من الشِباك الفرنسية والأميركية، فألمانيا على تواصل مع الدولتين وإسرائيل والمجموعة الخليجية والعربية، وعلى تنسيق تام في شأن عدد من القضايا الدولية.