ما أن صدر حكم المحكمة العسكرية في قضية سوزان الحاج- ايلي غبش، حتى طفحت «القلوب المليانة»، وارتسم على الفور الاصطفاف السياسي والطائفي الحاد بين مؤيّد للحُكم ومنتقد له. لكنّ الأمر لم يتوقف عند هذا الحدّ، إذ إنّ قرار المحكمة لم يكن سوى الثقاب التي رُميت في كومة قش، سريعة الإشتعال.
من ملف الحاج- غبش، الى التجاذب حول صلاحيات الاجهزة القضائية والامنية، مروراً بهواجس الأحجام والأدوار السياسية، تدحرجت الأزمة المستجدّة في اتجاهات عدة في وقت واحد، لتضع تفاهم «التيار الوطني الحر» و»تيار المستقبل» أمام أحد اصعب الاختبارات التي واجهها منذ إنجاز التسوية الرئاسية الشهيرة.
ولعلّ المواجهة بين مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان هي «الأغرب»، كون طرفيها يمثلان القضاء والامن.. فما هي رواية «العونيين» لخفايا هذه المواجهة؟
يقول مصدر عوني إنّ معظم الذين يهاجمون جرمانوس لم يدققوا في مرافعته امام المحكمة العسكرية ولا في الحكم الصادر عنها في قضية سوزان الحاج، مع أنّ المحاكمة كانت علانية، إلّا أنّ البعض استسهل التنظير من بعيد، ولم يكلّف نفسَه عناء حضور المحاكمة أو التدقيق في مجرياتها، لمعرفة الوقائع والحقائق كما هي.
ويلفت المصدر الى أنّ أصحاب الحملة على جرمانوس فاتهم أنه ليس هو مَن أصدر الحكم في قضية الحاج، بل هيئة المحكمة العسكرية التي لم تبرِّئ الحاج بل حكمت عليها بالسجن لمدة شهرين نتيجة كتم المعلومات، «كذلك فإنّ جرمانوس طلب إنزال أقصى العقوبات بحق ايلي غبش لكنها ارتأت تخفيض العقوبة الى السجن سنة واحدة».
ويلاحظ المصدر «أنّ منظومة متكاملة تتوزع الأدوار وتتولّى تنظيم هجوم منهجي على جرمانوس، انطلاقاً من حسابات سياسية وفئوية، مستخدِمة أدوات عدة في معركتها»، مشيراً الى «أنّ الحملة الاخيرة انطلقت بكبسة زرّ من مكانٍ ما، في حين أنّ الأصول تقضي بأن تتمّ مساءلتُه ضمن المؤسسات الدستورية إذا كان هناك أيّ اعتراض على عمله».
ويؤكد المصدر أنّ الحكم الصادر كان عادلاً ومنزَّهاً عن أيّ تدخّلات، معتبراً أنّ السياسيين الذين هاجموا الحكم هم الذين سيّسوه وهم الذين يتدخلون في عمل المحكمة ويحاولون الضغط عليها.
ويستغرب المصدر الهجوم على المحكمة العسكرية والمطالبة بإلغائها، متسائلاً عمّا إذا كان اصحاب هذا الطرح يعرفون خطورته وتداعياته، ولافتاً الى أنّ هذه المحكمة هي الوحيدة التي تحاكم «داعش» وكل الإرهابيين وتتحمل مسؤولياتها الوطنية، «ومَن لا يريد لها أن تبقى، عليه أن يتحمّل تبعات ذلك».
وعن الخلاف بين القاضي جرمانوس واللواء عثمان، يلفت المصدر الى أنّ هذا الخلاف ليس على قطعة أرض او على ميراث، وبالتالي لا يصحّ أن يُعطى البعد الشخصي، «بل هو يتمحور حول تحديد طبيعة العلاقة بين الرجلين وصلاحيات كل منهما»، لافتاً الى أنّ جرمانوس يعتبر نفسَه رئيس الأجهزة الأمنية وضابط إيقاعها، «لكنّ هناك مَن يتجاهل هذه الحقيقة ويرفض الاعتراف بها، لأنه اعتاد على تغييب موقع مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية والتصرف كأنه ليس موجوداً».
ويضيف: الأجهزة الامنية هي التي تتبع للسلطة القضائية، لا العكس، والمشكلة أنّ بعض المتحسّسين من انتظام هذا المسار وتصويبه يحاولون التشويش، وتحوير أصل المسألة في اتجاه شخصنتها او تطييفها.
ويشير المصدر الى أنّ إشكالية جرمانوس- عثمان يجب أن توضع في عهدة السلطات الدستورية التي عليها أن تقرّر ما إذا كانت تريد إقامة دولة أمنية تتحكّم بها الأجهزة أم دولة القانون المستندة الى الأصول، «وإذا قرروا أن يختاروا الدولة الامنية فمبروك عليهم». ويتابع: في حال كانت تصرفات جرمانوس تُغضب جزءاً من السلطة، فما على الغاضبين سوى أن يسعوا الى إعادة تشكيله وإبعاده من مركزه، أما هو فلن يتغيّر.
ويشدد المصدر على أنّ جرمانوس هو في نهاية المطاف قاض، ومَن يتّهمه بأنه يعتمد سلوكاً يفضي الى دولة بوليسية لا يعرف جوهر دوره وحدوده.
ويؤكد المصدر أنّ جرمانوس سيستمرّ في إزعاج المتضايقين منه، وكلما ارتفع الصراخ ضده كلما اصبح على قناعة بأنه يفعل الصواب، مشدّداً على أنه لا يتأثر بالحملات عليه «ومش فارقة معو، بل إنّ هذه الحملات متل العسل على قلبو».
ويشدّد المصدر على أنّ جرمانوس مقتنع بأن لا بدّ من وجود خلل ما في تجربة القاضي الذي لا يُخلّف أثراً وراءه.
لكن أوساطاً قريبة من «تيار المستقبل» تعتبر انّ الخلل يكمن في الدرجة الاولى في سلوك جرمانوس، سواء لناحية نمط تعاطيه مع عثمان و»شعبة المعلومات» في قوى الامن الداخلي، او لناحية طريقة مقاربته لقضية سوزان الحاج في المحكمة العسكرية، لافتة الى انّ تصرفاته باتت موضع اعتراض من أكثر من جهة.
وتعتبر الاوساط، انّ المشكلة بدأت حين أوقفت «شعبة المعلومات» قبل فترة أحد القريبين من جرمانوس، ثم تفاقم الاحتقان الى درجة انّ مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية ادّعى عليها في سابقة غير مألوفة، مشدّدة على انّ ما يروّجه جرمانوس من انّ الاجهزة الامنية يجب ان تتبع له وانّه رئيسها هو اجتهاد خاطئ، ولم يسبق ان حصل شيء من هذا القبيل في السابق.
وتشير الاوساط، الى انّ جرمانوس، والذين هم من خلفه، يخوضون معركة سياسية، ويوظفون القضاء في هذا الاتجاه. مشددة على انّ «المستقبل» لم يعد بامكانه التغاضي عمّا يحصل، وموضحة ان المعادلة التي تتحكّم بموقفه هي المحافظة على ثقة قواعده الشعبية وكرامتها، والمحافظة على التسوية انما وفق معيار التوازن.
وتنفي الاوساط ان يكون الرئيس سعد الحريري قد اتصل بالوزير جبران باسيل، مشيرة الى انّ الكلام الذي قيل إنّ الحريري أبلغه الى باسيل غير صحيح، لانّ الاتصال لم يحصل اصلاً.