نجح المتطرفون الإسلاميون من «القاعدة» أو «داعش»، لا فرق، أو يكادون، في تحقيق أحد أهم أهدافهم التي أعلنوها منذ اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001: وضع المسلمين في مواجهة شاملة مع الغرب «الصليبي»، فمن الواضح أن العلاقة بين بعض شعوب أوروبا وبين المهاجرين المسلمين، القدامى منهم والجدد، وصلت إلى حافة الهاوية، مهما حاول البعض إخفاء الحقيقة أو تجميلها بشعارات «الوحدة والتضامن».
وسيكفي أن يرتكب متشددون مسلمون مذبحة جديدة في مدينة أوروبية ما، وهو أمر يصعب تفاديه، لأن النية الإرهابية قائمة والخلايا موجودة والسلاح متوافر، حتى ينفجر الوضع تماماً، وتبدأ دول عربية وإسلامية في استقبال مهاجريها العائدين من القارة العجوز.
ولا تعدو التظاهرة التي نظمتها السلطات الفرنسية الأحد الماضي لتأكيد «وحدة» الشعب الفرنسي في رفض الإرهاب بعد مذبحة «شارلي إيبدو»، كونها إنذاراً مبكراً بما وصلت إليه عملياً العلاقة بين «الشعبين» داخل فرنسا، ومحاولة تطويق استباقية لواقع أن هذه «الوحدة من فوق» لن تصمد طويلاً إذا لم يجد الطرفان خريطة طريق فعلية لإيصالها إلى تحت، حيث تعتمل عناصر الفرقة والطلاق وتهدد بالانتقال الى مرحلة العنف المتبادل.
وما يحصل من تظاهرات يومية في ألمانيا «ضد الأسلمة» يؤكد أن التشنج إنما يعتري العلاقة مع المسلمين في معظم أوروبا، وأن الموجة لن تلبث أن تمتد وتتسع بعد استحكامها في البلدين الأكبر في القارة. ومع أن البعض يعتبر أن اليمين المتطرف في هذه الدول يستغل لأسباب سياسية بحتة الانشقاق الحاصل ويفاقمه، إلا أنه عملياً يجذب جمهوراً متزايداً من المواطنين العاديين الذين يرون في «التخلص من المسلمين» حلاً لأزمات عدة تقلص رفاههم.
وقد يكون الخوف من الانفجار الكبير ما يدفع دولاً غربية، وخصوصاً بريطانيا، إلى التحذير الشديد المتكرر من احتمال حصول اعتداءات إرهابية جديدة، على رغم مساهمة ذلك في توتير الأجواء المكهربة أصلاً، إلا أن هذه الحكومات التي تخشى تحمّل نتائج التقاعس عن التنبيه، وتفكر في الانتخابات، ترفق تحذيراتها بحملات أمنية واسعة لا تفعل سوى صب الزيت على النار. وهي حتى لو كانت مبررة بدافع الاحتراز إلا أنها تساعد اليمين المتشدد في مهمته لتجريم كل المسلمين على السواء.
ويعني قبول المواطن الأوروبي بتعميم التهمة ضد المسلمين، أنه لم يعد يكتفي بما يقال له عن أن الاعتداءات ومرتكبيها لا يمثلون الإسلام الحقيقي، بل لا بد من إثبات ذلك له عملياً، وهو طلب تكاد تلبيته تكون مستحيلة في ظل أجواء العنف المتولدة عن التداخل بين الدين والسياسة في دول المنشأ.
فهذا التطرف العنيف الواصل الى أوروبا، ولد ونما وتصلب عوده هنا في الشرق المسلم، حيث وجد في اختلاف المذاهب واقتتالها بيئة خصبة للتجنيد والتحريض والنشاط الإرهابي، ونجح في استغلال قضايا عالقة وأوضاع مأزومة في فلسطين والعراق وسورية، ليطرح فكره ووسائله بديلاً من الحوار السطحي القاصر وغير المجدي، بعدما أعطى الصراع المذهبي كل طرف فيه حججاً كافية كي يعتبر نفسه المدافع عن فئة من العراقيين، والنصير لفئة من السوريين، وأنه يملك مفاتيح «تحرير» فلسطين، وليغازل مسلمي أوروبا مؤكداً أنه المدافع عنهم في وجه «عنصرية» الدول التي تستضيفهم.
ومع أن بعض الدول العربية يشارك فعليا في قتال «داعش»، ومعظم العالم العربي يكافح المتطرفين ويلاحق خلاياهم، إلا أن الحلول الأمنية وحدها لا تكفي للقضاء على جذر المشكلة. والعالمان العربي والإسلامي (بما في ذلك إيران وباكستان وأفغانستان) في حاجة إلى مبادرة صادقة وجادة لإنهاء الانقسام المذهبي الذي يولد التطرف لدى الجانبين السنّي والشيعي على حد سواء. وما لم يحصل ذلك، لن يستطيع أحد تأكيد أن الطريق ممهد أمام إنهاء ظاهرة الإرهاب المتصاعدة.