الخلاف في وجهات النظر السياسية أمر طبيعي ومشروع، شرط ان يبقى تحت سقف المؤسسات وتنظيم الخلاف. ولكن، ما هو غير طبيعي وخطير، لجوء بعض الموظفين الكبار إلى التمرُّد، في مشهد يذكِّر بحقبة الحرب اللبنانية ويمهِّد للفوضى.
ينقسم ما تقوم به القاضية غادة عون إلى شقين: مبدئي- قانوني وسياسي – شعبوي، والشق الأوّل هو الأخطر والممهِّد للثاني، خصوصاً انّه من غير المعروف بعد ما إذا كانت عون تقوم بما تقوم به بشكل عفوي ومن تلقاء نفسها وهناك من يستغل دورها ويستثمر في أفعالها، أم انّها جزء من مخطّط يرمي إلى جرّ البلد إلى الفوضى، فتكون عون شرارة هذه الفوضى على نسق بوسطة عين الرمانة.
فكيف يمكن لقاضٍ أن يسمح لنفسه بمخالفة قرار السلطة القضائية التي يتبع لها، وألّا يمتثل لقراراتها، وان يواصل عمله وكأنّه صاحب السلطة والقرار ولا سلطة فوقه ولا قرار لغيره؟ فقد يكون القرار الصادر مشوباً بعطب وثغرات ونواقص، فإما ان يعلن استقالته رفضاً للقرار الذي قد يعتبره جائراً بحقه، وإما ان يعترض لدى الجهات القضائية المختصة من أجل نقض هذا القرار، ولكن رفضه الامتثال يشكّل سابقة بعد انتهاء الحرب اللبنانية، وفي حال لم يُصر إلى وضع حدّ سريع ونهائي لهذا التمرُّد فإنّه يمكن ان يؤسس لعدوى قد تمتد نحو سائر المؤسسات المدنية والعسكرية، فيدخل لبنان في الفوضى والمجهول.
وإذا كان يصعب استبعاد اي شيء مع الحالة العونية استناداً إلى التجربة التاريخية والوقائع الدامغة، إلّا انّ أكثر من يجب ان يكون حريصاً على الالتزام بالدستور والقوانين والمؤسسات والهرميات والتراتبيات هو رئيس الجمهورية، وكان أمامه فرصة ليثبت حرصه وتمسّكه وتمييزه بين الصراع السياسي وسهره على الدستور، وان يعلن بشكل واضح وحاسم رفضه لما يحصل، خصوصاً انّه يُكثر في الآونة الأخيرة في المواقف والتصريحات والمقابلات والزوار، ولا يصحّ ان يتغاضى عن حالة تتلطّى به، ويشكّل استمرارها ضرباً لما تبقّى من جسم الدولة ومؤسساتها.
ومهما كانت القضية التي يتحدث عنها هذا القاضي او غيره محقة، لا يحقّ له انتزاع هذا الحق بيده بمعزل عن المسار المؤسساتي، وإلّا يكون لبنان انتقل من الجمهورية اللبنانية إلى الجماهيرية الشعبية، وعلّق الدستور والقوانين ودخل في صلب شريعة الغاب، خصوصاً انّ لكل طرف وجهة نظر ويعتبرها محقة وبإمكانه ان يحشد لها الدعم والتأييد الشعبي، وما هو محقّ لدى هذا الفريق، يراه الفريق الآخر غير محق، والفيصل هو المؤسسات والدستور، وخلاف ذلك يدخل لبنان في حرب جديدة وترسيمات عسكرية ومتاريس ودشم حربية.
فالخطورة إذاً في الشق المبدئي- القانوني، انّ هناك من تجرأ على قرار مُتخذ بحقه، ورفض تطبيقه، وواصل مهمته على قاعدة انّ تكليفه أتى من الناس وليس من السلطة التي يخضع لها، متذرعاً بعناوين شعبوية من قبيل استرداد أموال هؤلاء الناس، وكأنّ هذا السلوك كفيل باسترداد هذه الأموال التي ضاعت بفعل ممارسة سياسية، تتحمّل مسؤوليتها إدارات متعاقبة وسياسات أخلِّت بموجبات الدستور والقوانين المرعية، فيما هذا السلوك ليس كفيلاً إطلاقاً باسترداد هذه الأموال، إنما هو كفيل بضرب آخر فرصة لاستردادها، لأنّ من يجرّ البلد إلى الخراب ويُسقط الدولة، التي وحدها تسترد أموال الناس، يكون من آخر همومه مصلحة الناس.
وأما على المستوى السياسي- الشعبوي، فما يحصل اليوم أخطر من الفراغ، على رغم انّ التفريغ المقصود والابتزازي يتحمّل مسؤولية واسعة من الانهيار الحاصل، حيث انّ هذا النهج المتّبع منذ العام 2005 بتخيير الخصوم بين الفراغ او الاستجابة لشروطه، أوصل البلد إلى الإنسداد السياسي في اللحظة التي لم يستجب فيها الخصم لابتزازه، ولكن التمرُّد يشكّل حالة متطورة عن الفراغ الذي يأخذ الطابع السياسي غالباً، خلافاً للتمرُّد الذي يشكّل مخالفة دستورية صريحة.
وما الذي يمنع الرئيس عون مثلاً ان يقول في منتصف ليل 31 تشرين الأول 2022، اي تاريخ انتهاء ولايته الرئاسية، بأنّه لا يريد الخروج من القصر الجمهوري، تحقيقاً لمشروع الشعب بتطبيق التدقيق الجنائي، ويدعو الناس إلى التظاهر أمام القصر الجمهوري تأييداً لاستمراره في موقعه خلافاً للدستور ولكن تجاوباً مع الإرادة الشعبية؟ فهل ما تقوم به غادة عون يشكّل مقدّمة وبروفا مثلاً لمن هم أعلى منها في المواقع والمناصب، وتهيئة لاستحقاقات مقبلة؟
ولا يمكن استبعاد أي شيء مع هذا الفريق، الذي رفض أساساً الالتزام باتفاق الطائف، الذي كان هو تحديداً خلف إنتاجه والوصول إليه، والخشية ان يكون هناك من قرّر تكرار هذا السيناريو، بعدما رأى انّ إمكانية انتخابه خلفاً للرئيس الحالي معدومة، فيكون البديل الاستمرار في الموقع الرئاسي حتى انتخابه رئيساً.
ولكن، من قال انّ البلاد تستطيع ان تبقى في هذه الوضعية حتى الانتخابات الرئاسية، في ظل انهيار مالي واشتباك سياسي وفراغ دستوري، وجاء أخيراً من يضيف إلى هذه العوامل التمرُّد المؤسساتي وتوسُّل الشارع، تحقيقاً للأهداف الفئوية السلطوية، حيث انّ ما يحصل يندرج في سياق الابتزاز الموصوف، والرامي إلى جرّ قوى أخرى إلى الاشتباك معه من أجل نقل الأزمة إلى مكان آخر، بعدما تأكّد انّ تأليف الحكومة لم يعد ممكناً، وانّ العهد سينتهي على وقع فراغ وانهيار وغضب شعبي، فلم يجد من وسيلة أفضل من رمي كرة النار من حضنه إلى حضن اللبنانيين.
وقد يكون التمرُّد وتوسُّل الشارع، المحاولة الابتزازية الأخيرة لجرّ الرئيس سعد الحريري إلى بيت الطاعة العوني، فإما يقبل بالشروط العونية او يعتذر. وفي حال فشل هذه المحاولة، فإنّ الخيار الوحيد أمام هذا الفريق قلب الطاولة، الذي كان هدّد به النائب جبران باسيل في ذكرى 13 تشرين الأول 2019، اي قبل 4 أيام من انتفاضة 17 تشرين، فيتوسّع مشهد التمرُّد على أكثر من مؤسسة، وينتقل الاشتباك على الأرض كما حصل أمام قصر العدل بين جمهور «المستقبل» والجمهور العوني، ويدخل البلد في المحظور.
ويظن هذا الفريق، انّ الفوضى تستجر تدخلّاً دولياً لوقفها، على غرار حربي التحرير والإلغاء. ولكن، من قال انّ السيناريو نفسه لن يتكرّر لجهة انّ التدخّل الدولي لن يأتي لمصلحته، فيكون البلد دخل في دوامة الفراغ والفوضى المأساة، خصوصاً انّ وضعه أضعف بكثير مما كان عليه سابقاً، بعد ان انكشف على حقيقته وغادرته شريحة واسعة من الناس ووضع نفسه في خلاف وعداوة مع أكثر من فريق سياسي، ولا يحظى بتغطية المرجعية الدينية التي تقف ضدّه، ولا يحظى بأي تفهُّم خارجي، وحتى حليفه سيكون محرجاً بدعمه.
والسؤال الأساس الذي يطرح نفسه: هل التمرُّد الذي شهدته البلاد وغير المسبوق منذ انتهاء الحرب، هو عفوي مرتبط بردّات فعلية شخصية للقاضية عون، أم تمرُّد محضّر ومنظّم من أجل التهيئة لشيء ما؟ وهل تمادي القاضية من دون ان يتمّ وضع حدّ لتمرّدها، سببه خوف وتقصير المسؤولين القضائيين والأمنيين انطلاقاً من شعورهم بأنّها مدعومة، أم وصلت رسالة إلى المعنيين مفادها انّ غادة عون خط أحمر؟ ومَن صاحب هذه الرسالة؟ وما الغاية منها؟ وهل فُتح تحقيق في الأمر؟ وهل انتهى التمرُّد عند هذا الحدّ، أم ما حصل هو فصل، والفصول اللاحقة على الطريق؟