أنّ قيام “إسرائيل” بقضم أراضٍ لبنانية في الجزء الشمالي من بلدة الغجر الحدودية المحتلّة، وضمّها بواسطة السياج الحديدي الذي أنشأته فوق الجدار الإسمنتي في المنطقة، الى ما تنوي إقامته من “دولة”، هو عملية “تثبيت” حدود هذه الدولة من خلال تعدّيها على أراضٍ ليست ملكها، وهو بالتالي مقدّمة لتثبيت سيطرتها على ما تبقّى من الأراضي اللبنانية المحتلّة، لا سيما مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والنخيلة والجزء المحتلّ من الغجر منذ العام 2000. لكن هناك مَن يعتبر أنّ محاولة “إسرائيل” هذه، تهدف الى إثارة مسألة ترسيم الحدود البريّة مع لبنان، على غرار ما حصل بينهما من توقيع “إتفاقية ترسيم الحدود البحرية” في 27 تشرين الأول الماضي، الذي حصل نتيجة مفاوضات غير مباشرة بين الجانبين بوساطة أميركية، قادها آموس هوكشتاين على مدى أكثر من سنتين.
أوساط ديبلوماسية مطّلعة تقول بأنّ العدو الإسرائيلي يهتمّ اليوم بإثارة موضوع ترسيم الحدود البريّة بينه وبين لبنان، بعد أن تمّ توقيع إتفاقية ترسيم الحدود البحرية، خصوصاً وأنّ توافقه مع لبنان على الحدود البريّة سيكون بمثابة “تطبيع شرعي”، وهو ما يحلم به منذ عقود. في الوقت الذي يعلم “الإسرائيلي” أنّ حدود لبنان الدولية مع سوريا وفلسطين (المحتلّة حالياً من “الإسرائيليين”) مرسّمة في إتفاقية “سايكس- بيكو” منذ العام 1920، وقد حصلت إتفاقيات عدّة بعدها وصولاً الى “إتفاقية الهدنة” في العام 1949، وجميع الوثائق والخرائط هي بحوزة الأمم المتحدة.
لهذا، لا يستطيع “الإسرائيلي” اليوم أن يعتدي على الأراضي اللبنانية، ويتمّ السكوت عمّا يقوم به، على ما أضافت الاوساط، حتى وإن كان تلك الأراضي يحتلّها منذ أعوام. وبدلاً من طلب ترسيم الحدود البريّة معه، لا بدّ للدولة اللبنانية ان تطلب الإنسحاب من هذه الأراضي وفقاً لما تنصّ عليه القرارات الدولية ذات الصلة، وآخرها القرار 1701. علماً بأنّ لبنان تقدّم أخيراً بشكوى الى الأمم المتحدة طالب فيها بالإنسحاب الفوري وغير المشروط للقوّات “الإسرائيلية” من الأراضي اللبنانية المحتلّة. ولكن يبقى أن يحصل على مؤازرة دولية، من أجل إرغام العدو على وقف قضم الأراضي في بلدة الغجر، وتنفيذ إنسحابه من الأراضي اللبنانية المحتلّة سريعاً بدلاً من “تثبيت” سيطرته عليها.
أمّا سعي “الإسرائيلي” لإجراء الترسيم البرّي مع لبنان، فيهدف الى الإعتراف بوجوده كدولة حدودية، وفق الاوساط نفسها، بدلاً من “دولة فلسطين” التي يحتلّها، وهذا ما لا يُوافق عليه لبنان، انطلاقاً من رفضه التطبيع مع العدو. غير أنّ ما يقوم به في بلدة الغجر، من خلال إقامته “بوّابة إلزامية” للدخول الى البلدة، وضمّ أجزاء منها الى السياج الشائك الذي أقامه فوق البناء الإسمنتي، يؤكّد أنّه يُمعن في الإحتلال وفي بسط سلطته على الأراضي اللبنانية، وليس العكس. ولكنها قد تكون ذريعة أيضاً لجعل لبنان يُوافق على الترسيم البرّي معه، بوساطة أميركية أو بوساطة الأمم المتحدة، كون الإتفاقيات السابقة تمّت بإشرافها عليها.
وتقول الاوساط بأن لا مجال للمقايضة التي حُكي عنها، أي أن تزيل “إسرائيل” السياج الحديدي من بلدة الغجر، مقابل نزع حزب الله للخيمتين اللتين نصبهما في بلدة كفرشوبا الحدودية. فلا مجال للمقارنة بين ما يقوم به “الإسرائيلي” وما يفعله لبنان. فالعدو يعتدي على أراضٍ لبنانية ويخرق القرار 1701 في وضح النهار وأمام أعين قوّات “اليونيفيل”، وهو إجراء عدائي، في حين أنّ لبنان ينصب خيمتين في أراضٍ لبنانية وداخل الخط الأزرق، الذي هو خط تثبيت إنسحاب القوّات “الإسرائيلية” من المنطقة الجنوبية، وهو إجراء عادي. لهذا فإنّ لبنان لن يمتثل الى مطالبة من هذا النوع.
وبرأي الاوساط عينها أنّ “الإسرائيلي” يهدف الى إعادة تسليط الضوء على سلاح حزب الله في المنطقة (الذي هو فعلياً لتحرير الأرض والدفاع عنها والحفاظ على الأمن والهدوء)، كما الى بداية “تثبيت” احتلاله للجزء الشمالي من الغجر، وضمّه مع الوقت. علماً بأنّه يُحاول تبرير بناء الجدار وإقامة السياج، على أنّه من أجل منع صواريخ الحزب من الوصول الى المستوطنات الشمالية. وهذا غير صحيح، كون الجدار ليس مرتفعاً كثيراً عن الأرض، ويُمكن أن يمرّ أي شيء من فوقه.
أمّا محاولة “الإسرائيلي” التهديد بقصف الخيمتين لثلاث مرّات، ووضع مواقيت محدّدة لهذا القصف من دون أن يفعل، فهي لا تُجدي نفعاً، على ما ذكرت الاوساط، لأنّ الحزب لا يخشى من التهديدات “الإسرائيلية”، ويعرف كيف يتعامل معها. كذلك فإنّ قصف الخيمتين، يعني خرقاً “إسرائيلياً” جديداً للسيادة اللبنانية كونهما منصوبتين في بلدة كفرشوبا اللبنانية. وإذا فعل، خلال الساعات أو الأيام المقبلة، فعليه تحمّل مسؤولية ردّة فعل من هذا النوع.
وتجد الاوساط بأنّ ظروف الترسيم البرّي تحتلف عن تلك التي رافقت الترسيم البحري، من أجل تسهيل بدء عمليات الإستكشاف والإستخراج من الجانب اللبناني للغاز في البلوك 9 ، المتوقّع بدء العمل فيه خلال أيلول المقبل. لهذا لا تتوقّع الاوساط حصول أي ترسيم برّي مع “الإسرائيلي” في وقت قريب، إنّما تكثيف مطالبة لبنان بانسحاب القوّات “الإسرائيلية” ممّا تبقى من أراضٍ لبنانية محتلّة…