لم يصدر عن رموز إخوانية ما يناقض أطروحة الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة في تونس. أعلن الرجل من على منبر «لوموند» الفرنسية أنه «لم يعد من مبرر لوجود الإسلام السياسي» في بلاده، وقاد حزبه في المؤتمر الأخير للتفريق بين الدعوة والسياسة. و «الشيخ» واحد من منظري الإسلام السياسي في العالم، واعتبر ركناً أساسياً من أركان ما يعرف بـ «التنظيم الدولي» لجماعة الإخوان المسلمين. فأن يفتي في تونس بزوال الإسلام السياسي فإن للأمر وقعاً في صفوف ذلك الإسلام ومناصريه في بلدان إسلامية أخرى.
يستنتج راشد الغنوشي واقعاً فيفصّل نظريته الجديدة على مقاس ذلك الواقع، وقد يذهب لانتاج طبعات لاحقة تناسب قياسات واقع آخر. أدرك زعيم النهضة أن المجتمع التونسي قاوم الأسلمة التي سعى إليها حزبه بالسرّ والعلن. خرج المجتمع المدني بوسائل الاعتراض الحضارية يكافح ما يرومه النهضويون للمجتمع التونسي. دافع أهل البلد عن حداثة بشّر بها الحبيب بورقيبة، وقاموا يردون الضربات عن بورقيبية (خرج ضدها الغنوشي باسم الدين) طبعت المجتمع التونسي الحديث، وميّزت تونس عن محيطها العربي والإسلامي. وحين حملت صناديق الاقتراع صدى تلك المقاومة خلع الرجل عباءة «الأمة» ولبس عباءة تونس من جديد.
تخلى الغنوشي عن الإسلام السياسي العابر للحدود باتجاه الاعتراف بالدولة الوطنية بحدودها ومساحتها وتاريخها وروايتها وهويتها. لا يؤمن خصوم الغنوشي بـ «توبة» الرجل ويعتبرونها مناورة براغماتية لن يتردد في استبدالها بمناورة نقيضة إذا ما تغيرت الظروف. يرون في تحوّلات الرجل «تقية» من تبدّل مزاج محلي (تونس) إقليمي (مصر) دولي (الولايات المتحدة) إزاء الرعاية التي تخيّل الإخوان أنهم يحظون بها بعد اندلاع ذلك «الربيع» في المنطقة.
لكن سواء أتت «مراجعات» راشد الغنوشي وليدة قناعات حقيقية أو نتاج مرونة ماكيافيلية، فإن على التونسيين كما المراقبين لشؤون الإسلام السياسي أن يأخذوا الأمر بصفته واقعاً سياسياً مستجداً على النهضة كما على الجماعات الإسلامية. لكن للباحث أيضاً أن يسأل، إذا ما توقفت «النهضة» عن تسويق الدين داخل أطروحاتها السياسية، فما الذي تبيعه بعد ذلك، وما الذي سيجعلها مختلفة عن أي حزب سياسي آخر؟ وربما قد يتساءل المواطن في تونس أي فرق اليوم بين «النهضة» بزعامة الغنوشي الخالية من أي عبق إسلاموي عن «نداء تونس» بزعامة رئيس الجمهورية الباهي قايد السبسي (حتى لا نقارنها بأحزاب يسارية عقائدية)؟ ويجوز أيضاً التساؤل حول مزاج الجموع التي حضرت المؤتمر العام الأخير لـ «النهضة» وهي تصفق لزعيمه وهو يعدم مبرر وجود الإسلام السياسي، فيما نفس الجموع كانت تصفق للزعيم المبشّر بهذا الإسلام السياسي في المؤتمر العام السابق.
لم نلحظ نقاشاً داخل حزب الغنوشي في تونس، وإن حصل ذلك فهو عرضي لا يعاكس مزاج الزعيم. لا استغراب في التاريخ الحديث والراهن من تبدّل في خيارات وانقلاب في المواقف تطرأ على مسيرة حزب أو خطاب زعيمه. يذكر الشيوعيون الإيطاليون بأنهم تمردوا على الماركسية المستوردة من موسكو بمجرد أن رأى زعيمهم أنريكو برلينغوير غير ذلك. كان يكفي أن يدخل المستشفى عام 1973 إثر حادث فيتأمل الكون من داخل حجرته في المستشفى فيخرج باستنتاج آخر يبدل دفة حزب كبير عريق في إيطاليا.
بيد أن راشد الغنوشي قدم أطروحته الجديدة، ليس كمنظّر للإسلام السياسي في العالم، بل كسياسي تونسي يقرأ التاريخ من خلال معطيات تونسية. يقرر الرجل أنه «لم يعد من مبرر للإسلام السياسي في تونس»، من دون التورط في الإدلاء بدلو حول مصير هذا الإسلام السياسي، ومبرراته استمراره خارج حدود تونس، بما يترك الباب موارباً أمامه وأمامة عتاة الإسلام السياسي لتوفير تلك المبررات التي انتفت في تونس.
ربما يسجّل لراشد الغنوشي أنه «ارتكب» سابقة تؤسس لإنزال الإسلام السياسي من بروجه والتعامل معه بصفته حالة مرحلية لا تمت بصلّة للإسلام العابر لكل المراحل. يشتبه الخصوم بأن «مراجعات» الرجل قد تشبه تلك التي صدرت عن «الجماعة الإسلامية» من داخل السجون المصرية (1997) أو تلك التي خرجت بها الجماعة الليبية المقاتلة من داخل سجون نظام معمر القذافي (2009). ثبت بالدليل أن تلك المراجعات صدرت بسبب الهزيمة التي منيت بها جماعات البلدين، أي أن القوة وحدها هي التي فرضت تغييراً في فقه الإسلاميين، كما ثبت التراجع عن تلك المراجعات حين خيّل لتلك الجماعات أن «ربيع» العرب يبتسم لهم.
ليس مطلوباً من رجل بقامة راشد الغنوشي لدى الإسلاميين أن يكتفي بنأي حزبه وبلاده عن الإسلام السياسي. بات مطلوباً لتلك المراجعة المحلية أن تعمم، حيث تصبح دستوراً في العالم الإسلامي يخلّص الدين من السياسة ويخلص السياسة من الدين، وحيث يثبت نهائياً أن أمر الحكم وأحواله بشري في فضائله وخطاياه، يجوز نقده وإصلاحه وتطويره، وهو أمر لا يجوز أن بنطبق على ما هو رباني مقدس.
مارس راشد الغنوشي السلطة وخبر شروطها وبات وحزبه يدرك موضوعية الصدام بين النخب، حاكمة ومعارضة، سياسية واقتصادية ومجتمعية، من جهة، وبين تيار الإسلام السياسي، لا سيما في العالم العربي، من جهة ثانية. ولا شك أنه أكثر العارفين بأن قيادة الأمم لا تحددها الغرف المغلقة وكواليس «المرشد» و «المراقبين»، وأن الشفافية التي تواكب عمليات انتاج السلطة تتطلب العبور من خلال ممرات تفرد للمقدس مساحاته في وجدان الناس وتراثهم، وتنقيه من تلوّث السياسة بصفتها فن إدارة المصالح. ولا ريب في أن زعيم النهضة يدرك أن أمان سباحة حزبه خارج مياه الإسلام السياسي يتطلب تجفيف مياه ما زالت تدير طاحونة الإسلاميين، بمعنى آخر فإن جهده المتوخى لتعميم تجربته التونسية لدى إسلاميي المحيط هي تدبير إلزامي إذا ما أراد لمراجعاته السلامة والأمان.