لا بأس بـ”حاشية” في مستهل الكلام: هذا الجدل بين “بعبدا” و”عين التينة” الآخذ شكل “نقاش دستوري” حول الدورة الاستثنائية لبرلمان يدعى زوراً “سيد نفسه”، مثير للاشمئزاز ولا يضمر الا حقداً ولؤماً وطائفية ونفعية واحتقاراً لمآسي الناس… انتهى.
***
في “صار الوقت” الخميس أطل من باريس بعد غياب طويل عن الشاشات الدكتور غسان سلامة. وهو بين قلائل يعطون معنى للمشهد الاعلامي حين يحللون او يبدون آراءهم. ولأن قيمته الفكرية الرفيعة ثابتة وسيرته العلمية والمهنية محل إجماع وتقدير، فإن بعض ما تناوله يستحق نقاشاً محرّضاً على أسئلة وأفكار.
قد لا يختلف أي انسان سَوي مع 95 في المئة مما ذكره سلامة عن الوضع المزري في لبنان. فوصفُه المنظومة بـ “الكلبتوقراطية” أي “حكم الحرامية” بـ”العربي المشبرح” لا يخالفه إلا شركاء الارتكابات، وتشخيصُه لصعوبات “الطرح الفدرالي” لأنه يفترض سلفاً اتفاق “الأجزاء” على السياسات الدفاعية والخارجية والمالية بالتحديد، هو لسان حال كثيرين مراقبين او علماء اجتماع. وينسحب التوافق مع سلامة على معظم أفكاره لأن منطلقها ايمان بلبنان الدولة والحريات وبانتمائه الى “عروبة حضارية” والالتزام بحقوق الانسان الفردية والوطنية.
ما يثير الاعتراض او السؤال في طروحات سلامة نقطتان: الانقاذ المالي، والحياد. فهو في تأكيده المهم على وجوب أن يحدد أهل السلطة وسائر المجتمع السياسي أولوياتهم للتحاور مع المجتمع الدولي والعودة الى “جنة” الدول التي تستحق الإقراض، وَجَدَ أن أولوية الأولويات هي مساعدة مادية للبنانيين الذين انتقل ثلاثة ارباعهم الى خط الفقر وسيرزحون فيه حتى الفرَج.
يشعر سلامة بأن لا شيء أهم من معالجة مريض وتأمين رغيف خبز وتعليم الأولاد. وربما كانت واقعيته المفرطة جزءاً من “انحراف مهني” انساني تسبب به عمله مع الأمم المتحدة ومعايشته آلام العراقيين والليبيين، فبات يقدم دفعَ العوز على الحل السياسي، واتقاءَ البرْد اليوم على الدفء المستدام. لكنه يعلم من غير شك أن انهيارنا الاقتصادي وتفكك مؤسساتنا ليسا ناجمين فقط عن تواطؤ السياسيين الفاسدين مع المصرفيين و”السارق المركزي”، بل عن “منظومة” انقلبت على دستور “الطائف” بُعيد اقراره وقررت ان “النظام” هو الدولة، وأن “القضاء” جاريةٌ لمن رغب، وأن الأجهزة والميليشيا أداة لقمع المطالبين بالسيادة والحرية والاستقامة في رعاية الشأن العام.
يعلم سلامة ان الرئيس الشهيد رفيق الحريري حاول تركيب معادلة تعايش بين الإنماء والسلاح، فانتهت الى فشل مكلف ومأسوي. ويدرك ان العلة تكمن في منع قيام دولة عادية، سلاحُ الشرعية فيها بلا شركاء، وحدودها مضبوطة، ومعابرها لا تسمَّى بأسماء المهربين الكبار، ومرافئها لا تستضيف نيترات وتدمر ثلث المدينة وتقتل ابناءها الأبرياء. فمَن يضمن لسلامة ألا تشكل اولوية المساعدات المالية مرهماً يسمح ببقاء الارتهان لسياسات لا تبني دولة ولا تعالج مريضاً بحاجة الى جراحات؟
أما “الحياد” الذي يراه سلامة طرحاً بلا ركائز أصلاً وخصوصاً في ظل التوازنات والمواقف الدولية الحالية إزاء لبنان، فهو ليس ضرباً من خيال يتوهم الانسحاب من صراعات المنطقة وتعقيداتها، بل هو مشروع نضال محق لحصانة أممية لدولة أنهكها دور الملعب الاقليمي وتريد ضمانة بأن حدودها لن تستباح من الخارج والداخل، وأن خلافات أبنائها محكومة بالسلم الأهلي.
غسان سلامة “فاصلٌ قصير” على الشاشات، عسى أن يتبعه آخرون يثرون النقاش بدل الدفاع عن منظومة مارقين وأوباش.