في كلّ حالات تورّطه في زواريب السياسة اللبنانية، يغلب «عقل الطبيب» على أداء ومفردات غطاس خوري. تراه يبتعد كثيراً عن «الكليشيهات» الكبيرة ويفضّل المعادلات الحسابية ولو بدت في لحظات معيّنة «ضرب جنون».
بهذا المنطق، تقبّل أن يقف طويلا في الظلّ حين سرقت منه أضواء النيابة في العام 2005، ليحافظ على مكانته المميزة كأحد أركان الدائرة الضيقة اللصيقة بسعد الحريري بعد «توتر موضعي» ساد العلاقة اثر ترشحه في العام 2009 في الشوف.
لم يكن الجرّاح الشوفيّ يوماً صنيعة «الحريرية السياسية»، وإن صار مكوناً مهماً في مطبخها الضيق. للرجل مساره الطويل مذ أن كان طبيباً في الجامعة الأميركية في بيروت، من بين قلّة مسيحيّة لم تترك «المنطقة الغربية» كما كانت تسمى في عز الحرب الأهلية.
في تلك الأيام، وتحديداً في العام 1988 تعرّف الى ميشال عون رئيس الحكومة الانتقالية حين كسر يده وجرت الاستعانة بأحد أطباء «الجامعة». ثم عاد بعد فترة الى بعبدا مرافقاً سرّاً عدد من الأطباء المتحمسين الى ذلك القائد «التحريريّ»!
وهو ليس بالأمر الغريب على ابن عسكري، ولو كان الأخير «شمعوني» الهوى. لينسج في حينه اول خيوط علاقة متقطّعة مع «جنرال القصر»، استعادت بعض ملامحها حين انتخب نقيباً للأطباء في العام 1998.
في تلك الفترة، لم يكن خوري يعرف رفيق الحريري الذي كان يدعم مرشحاً آخر للمعركة النقابية، الى أن حصل اللقاء بينهما واتفقا خلال خمس دقائق فقط على التعاون المستقبلي، وهذا ما حصل.
أولى نتائج التعاون كانت انتخابه نائباً عن بيروت في العام 2000 بواسطة المحدلة الحريرية، ليصير الرجل محط ثقة رئيس كتلته، وواحداً من «مفاتيح الاحتياط»، لا سيما أنّ لخوري شبكة علاقات متينة مع مسؤولين أميركيين، أبرزهم ديك تشيني نائب جورج بوش الابن. ويقال إنه التقاه أكثر من مرة في واشنطن وأوروبا في اجتماعات بعضها علني والآخر بعيداً عن الأضواء.
يعود «الوجه» الأميركي في نشأة غطاس خوري الى كونه تلقى تعليمه الثانوي في مدرسة أميركية في منطقة مرجعيون، قبل انتقاله الى الجامعة الأميركية لدراسة الطب، والتخصص من بعدها في الولايات المتحدة.
ولكن بالمقابل، ثمة «وجها» مختلفا كلياً، يعود الى كون زوجته سمر جبور وهي رئيسة قسم الانعاش في الجامعة الأميركية، من وادي النصارى في سوريا، وكان والدها في بداية الثلاثينيات نقيباً للمحامين في سوريا وأحد أصدقاء العميد ريمون اده… فجمع في شخصه خليطاً غير تقليدي بدا جلياً في حضوره السياسي.
ربما لذلك، لم يكسر غطاس خوري يوماً الجرّة مع ميشال عون الذي كان لا يزال في منفاه الباريسي. وقد نجح في لقائه في العام 2003 موفداً من رفيق الحريري حين قرر الأخير فتح أبواب خلفية على المعارضة المسيحية، ليعمل من بعدها على خطّ المصالحة مع «لقاء قرنة شهوان».
بعد اغتيال رفيق الحريري في العام 2005، كان خوري أول من فاتح ميشال عون بمشروع التفاهم الانتخابي مع «تيار المستقبل»، لكنّ مهمته سرعان ما اصطدمت بعقبة الخلاف حول الحصص بعد عودة «الجنرال» الى بيروت. لكنه وبرغم الخلاف، تمكن من ترميم العلاقة العتيقة والحفاظ على الحدّ الأدنى من التواصل مع الزعيم المسيحي الآتي على متن «تسونامي» تصدى لـ «التحالف الرباعي».
لم يعد سرّاً رأي غطاس خوري في مشروع ترئيس «رئيس تكتل التغيير والاصلاح». هو من مجموعة ضيقة (الى جانب نادر الحريري ونهاد المشنوق) اقترحت الوصول الى تسوية الحدّ من الخسائر على قاعدة «رئيس من 8 آذار مقابل رئيس حكومة من 14 آذار». اقتنع سعد الحريري في العام 2013 بضرورة التجاوب مع الاتصالات التي كانت بدأت ترد من الرابية، طلباً للودّ الرئاسي.
بدأ التواصل عبر قنوات متعددة، الى أن حصل اللقاء الشهير في باريس في كانون الثاني العام 2014، بين الحريري وعون، بحضور نادر الحريري وغطاس خوري.
كان خوري من بين الداعين الى خوض المحاولة الرئاسية مع سليمان فرنجية، ليس على قاعدة الانقلاب على ترشيح «الجنرال»، ولكن على قاعدة الواقعية السياسية التي تدفع إلى جعل «قوى 8 آذار» تسير بالتسوية الرئاسية، واذ بالصدفة تجمع غطاس خوري بالقطب الزغرتاوي على هامش تشييع نجل رجل الأعمال جيلبيرت الشاغوري في فرنسا، ليبدأ مشوار مفاوضات جديد انتهى بمبادرة باريس التي ولدت في 18 تشرين الثاني 2015.
هكذا، بردت أسلاك التواصل بين «المستشار السياسي» وبين عون ولكن من دون أن تنقطع، لا بل التقاه مرتين في تلك الفترة… الى أنّ أعيد تعويم خيار انتخاب رئيس «تكتل التغيير والاصلاح» بدءاً من حزيران الماضي. وبطبيعة الحال كان غطاس خوري من المتحمسين لهذا المشروع، ولكن احتراماً للصداقة مع سليمان فرنجية فضّل الانكفاء عن واجهة المفاوضات مع الرابية، وترك الدفّة لنادر الحريري.
وها هو اليوم يحصل على «مكافأته»، وربما في الوزارة التي يتمناها.