… سألته وأنا أبحث عن جدوى التحركات الخجولة في الشارع: «في أمل؟». فأجاب بنظرة الواثق: «نحن متمسكون بالحق». ثلاث كلمات كانت كفيلة بزرع الطمأنينة في داخلي. حتماً، سيتغيّر الوضع، قُلت لنفسي. ثم عُدت فسألته: «رح يرجعوا؟» ابتسم وقال: «المهم أن ننتزع اعترافاً بأنهم اعتقلوا وخطفوا وسُجنوا في سوريا».
كان ذلك في لقاءٍ يتيم مع غازي عاد، المناضل في «لجنة دعم أهالي المعتقلين والمنفيين اللبنانيين في السجون السورية» – «سوليد». الرجل الذي نذرَ حياته في سبيل تلك القضية، دون كللٍ أو يأس، لم يعد من غيبوبته التي دامت أسبوعين. غلبه المرض وأضناه الانتظار حتى فقدناه بالأمس.
كلّ الكلام في حضرة الرحيل غيرُ مجدٍ. من ارتبط اسمه بمسيرة نضالية طويلة لا يحتاج إلى رثاء، بل إلى من يتبنى ويراكم حتى يُثمر ذلك تقدماً ما في ملف المفقودين الذي سخّر غازي أكثر من 29 عاماً من عمره لأجله.
هو الحالم بأمل. أمِل بعودة المعتقلين والمخطوفين والمخفيين قسراً. امل بعودة الصحوة إلى ضمائر المسؤولين. أمل بعودة الضحكة إلى وجوه الأمهات الحزانى. أمل بعودة السلم وكشف الحقيقة لتأمين العدالة الانتقالية للبنانيين.
بالرغم من أن الفاجعة لم تقع في عائلته، شعر غازي بوجع كلّ من فقد حبيباً، فكان مواطناً ملبياً للنداء الإنساني. أسّس مع مجموعة من أصدقائه «الحملة الوطنية لدعم أهالي ضحايا الإخفاء القسري والمعتقلين والمنفيين اللبنانيين في السجون السورية» في العام 1990. باشرت الحملة عملها النضالي من ذلك الحين، حيث بدأت تتواصل مع أهالي المعتقلين وتوثّق حالات الخطف. مع خروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005، تضاعفت أعداد الحالات التي بدأت تتواصل مع الحملة، التي حصلت على علم وخبر رسمي في العام 2008.
ينقل رفيق دربه فاضل طيّار لـ «السفير» أن «غازي فوجئ بعد الخروج السوري بكشف الأهالي عن أعداد إضافية من المخطوفين»، مضيفاً أنه «كان جريئاً في نقل الأحداث وكيفية حصول عملية الخطف، حتى انه ردّ على سؤال أحد المسؤولين الأمنيين في جهاز مخابراتي بالقول: في الفترة الممتدة من العام 1989 حتى العام 2005 كانت الأجهزة العسكرية والأمنية الرسمية اللبنانية تلقي القبض على الشبان المطلوبين وتسلمهم إلى المخابرات السورية».
كان شرساً في الدفاع عن حقه. عرفته الأمهات صلباً. منه كن يستمددن قوةً ومعنويات وأملاً. حفظ قصص المخطوفين بكل تفاصيلها. لم يكن بحاجة إلى محفظةٍ أو دفترٍ ليُسجل قصص الذين رحلوا. عرف عن كل مفقودٍ معلوماتٍ تُضاهي تلك التي تملكها أمّه أو زوجته أو شقيقته أو شقيقه، فقد حفر هؤلاء في ذاكرته ثقوبا لا تَندمِل إلا بعد كشف مصيرهم.
كان مؤمناً بما يقوم به. دافع حتى الرمق الأخير عن حقّ كلّ مخطوف بشجاعة. واجه كلّ حكومات العالم. حضر المؤتمرات وشارك فيها كاشفاً النقاب في كل مناسبة عن معلومات جديدة عن المخطوفين. كان يتسلح بقصص تحكيها الأمهات، وتفاصيل يسردها من تمكن من زيارة قريب له في السجون السورية فحالفه الحظ برؤية سجين آخر والتعرّف إليه. هتف في اعتصامات الحملة بصوت عالٍ: «ما حدا مكلّف خاطرو يسأل عن المخطوفين». دلّ بيده على الممارسات الخاطئة وقال بجرأةٍ: «الدولة لا تقوم بواجباتها لا بل إنها تُغطي جرائم النظام السوري».
كان ينفعل حين يُبادره أحد بالقول: «على مين عم تبرموا.. كلهم ماتوا». فلا يتردد بالقول: «عظيم. فليُعطنا أحدٌ رفاتاتهم. نحن نريدها. واجهونا بالحقيقة مهما كانت». فيحلّ الصمت والخجل.
في الفترة الأخيرة، توجّس غازي من تعب الأهالي وتململهم، وفق ما يؤكد صديقه وديع الأسمر. كبر الأهالي ومرارة الانتظار باتت أقوى منهم، فلا قدرة لهم على تحملها أكثر. بعضهم فارق الحياة، فترك الرحيل في نفس غازي غصةً ووحدةً كالجليد. عرف أن الأحفاد لن يكملوا البحث بزخم أجدادهم، فما من شيء يجمعهم مع المخطوف. إنه بالنسبة لهم مجرد اسم بلا ماضٍ ولا ذاكرة مشتركة.
لازم غازي الأهالي في كلّ المِحَنِ، فتشرّب منهم حبّ المفقودين حتى من دون أن يعرفهم. مثّل الذاكرة الحيّة لكل مفقود… لعب دور الدولة في حفظ سجلاتهم والبحث عنهم ووقع ضحية مضايقات كثيرة.
حمل غازي أثقل ملف على كتفيه ومضى. لم يُعِقه عجز جسدي عن الاستمرار، فماذا سيحل بالذاكرة بعد رحيله، هو المناضل الذي لن تهدأ روحه المنتفضة قبل تحقيق المنال؟
… وتحية وداع من لجنة أهالي المخطوفين
نعت «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان»، «رمزا من رموز قضية المفقودين والمخفيين قسريا» المناضل غازي عاد. ودعت «جميع الأهالي ومحبي غازي وأصدقاء القضية إلى التلاقي لإلقاء تحية الوداع له»، وذلك عند العاشرة من صباح يوم غد حول خيمة اعتصام الأهالي في حديقة جبران خليل جبران، مقابل مبنى «الاسكوا» في بيروت.
رؤساء ينعون عاد
نعى رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس السابق ميشال سليمان، ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، ورئيس «حزب القوات اللبنانية» سمير جعجع، رئيس جمعية «سوليد» غازي عاد الذي رحل أمس.
وقال عون: «يغيب اليوم غازي عاد بالجسد لكنه يبقى حاضرا بدفاعه عن حقوق كل انسان ونضاله لأجل كل مفقود ومغيب سيظل غازي عاد نموذجا وقدوة وحافزا لاستمرار الرسالة».
فيما غرّد سليمان عبر «تويتر»: «بعدما أتعب الخيمة وأذهل السجان بصموده الاسطوري وإرادته الصلبة، استسلم اليوم لمشيئة الله وبقيت القضية. الرحمة لروح غازي عاد». وعلق جعجع على رحيل عاد عبر «تويتر»، قائلا: «استرح يا غازي في خلود الرب، أما نحن فما دمنا أحياء لن نستكين في متابعة ملف المعتقلين في السجون السورية». وأرفق التغريدة بصورة للراحل.
أما الحريري فاتصل بعائلة عاد معزيا. وأصدر نواب وجمعيات وشخصيات بيانات عدة تؤبن غازي عاد.