أمس، توفرت كل دواعي الهلع. محال بيع المواد الغذائية أقفلت كلياً أو جزئياً، وسط تهافت غير مسبوق على شراء السلع. اكتمل المشهد مع تصريح وزير المال غازي وزني عن رفع تدريجي للدعم عن السلة الغذائية، وتخفيف دعم البنزين تدريجياً، وصولا الى رفعه كلياً بعد ثلاثة أشهر، أي عند انتهاء الـ 1.5 مليار دولار المخصصة للدعم من احتياطي مصرف لبنان. ورغم أن كلام وزني نفته مصادر حكومية وأخرى في مصرف لبنان، الا أنه ينبئ بمزيد من التدهور في قيمة الليرة وفي استنفاد أموال المودعين لمضاعفة أرباح الأثرياء والتجار والمصارف… مرة أخرى
ADVERTISING
لم يكن التضارب على أحقية الحصول على كيس حليب مدعوم أو عبوة زيت نباتي مجرّد حادثة عرضية نتيجة الضغط الاجتماعي المتصاعد. هناك داع للهلع فعلاً. المواد الأساسية من أرز وسكر وزيت وحبوب ما إن «تغطّ» على رفوف المحال التجارية حتى تنفد في اللحظة عينها، ولا سيما إن كانت من الصنف المدعوم. ووفق وتيرة التصاعد الدراماتيكي لسعر صرف الدولار، بات التحدّي أمام المستهلك أن يكون جاهزاً فور تنزيل هذه البضائع للانقضاض عليها قبل غيره. هكذا، أصبحت الشجارات أمراً مألوفاً ومبرّراً نتيجة ضعف الاستيراد، وخوفاً من انقطاع بعض المواد أو ارتفاع سعرها مع ارتفاع الدولار. أما السلع المدعومة التي يفترض أن تتوفر في المحال، فلا تصمد أكثر من نصف ساعة لسرعة التهافت عليها، ولأن بعض التجار وأصحاب المحال يتعمّدون تخزينها وتهريبها وتوضيبها في أكياس غير مدعومة لتكديس أرباحهم. المستجدّ، هنا، أن ملامسة الدولار سقف الـ 15 ألف ليرة، ترافق مع إقفال جزئي أو كُلّي لمحال السوبرماركت في انتظار رسوّ سعر الصرف على هامش واضح، ما ضاعف خشية المستهلكين ودفعهم الى التسابق على ما تبقى على الرفوف. أمس، كان المشهد سوريالياً، وكأنها الحرب. مواطنون يركضون نحو المحال لتأمين حاجاتهم، يتدافعون ويتضاربون. بعض المتاجر لم تفتح أبوابها ونشرت رسالة تعتذر فيها عن الإقفال بسبب ارتفاع سعر الصرف. متاجر أخرى أقفلت في منتصف النهار، فيما جزء ثالث أقفله المحتجّون بالقوة، وخصوصاً في بيروت. الفوضى نفسها تنسحب على محالّ بيع الألبسة والبيع بالمفرّق، علماً بأن لا قرار رسمياً صدر عن أي نقابة لا بالإقفال ولا بالفتح.
وسط ذلك كله، خرج وزير المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني ليتحدث عن «تقليص الدعم على المواد الغذائية والبدء التدريجي بزيادة أسعار البنزين لإنقاذ الاحتياطيات المتضائلة بالعملات الأجنبية». مجرد الحديث عن رفع الدعم أو تقليصه، أدّى الى مضاعفة التوتر في الشارع. إشارة وزني الى أن «الحكومة ستزيل بعض المنتجات عن قائمة السلع المدعومة» كانت كفيلةً بتسعير السباق على محال بيع المواد الغذائية. ولـ«يكتمل النقل بالزعرور»، أعلن وزير المال أن «الحكومة تخطط لزيادة الأسعار تدريجياً في محطات الوقود في الأشهر المقبلة، وخفض دعم البنزين من 90 في المئة إلى 85 في المئة». وهو ما نفته لاحقاً مصادر حكومية وأخرى في مصرف لبنان، مشيرة الى أن أي قرار لم يتخذ في هذا الشأن، علماً بأن تصريحات وزني تقاطعت مع كلام لرئيس الحكومة حسان دياب الى «رويترز» عن «عدم القدرة على دعم الوقود بعد آذار، أو كحد أقصى حتى حزيران». وذلك إن حصل، سيكون مسبباً لانفجار شعبي غير مسبوق في غياب أي آلية للتعويض على المواطنين.
كل هذا يؤكد أن ترشيد الدعم، وصولاً الى إلغائه، كان من المفترض أن يُنفّذ منذ أشهر عوضاً عن استفاضة وزني وغيره في ابتزاز المواطنين كل فترة عبر إعلان نفاد احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية (16 مليار دولار) التي لا يمكن استخدام منها سوى مليار أو 1.5 مليار دولار لتمويل الدعم، بما يكفي لشهرين أو ثلاثة.
دولار الـ 15 ألف ليرة ترافق مع إقفال جزئي أو كُلّي لمحال السوبرماركت ودفع المستهلكين الى التسابق على ما تبقى
الى ذلك، علمت «الأخبار» أن السيناريو الأخير الذي أعدّته الحكومة للبطاقات التمويلية موضّب في أدراج السرايا بإحكام ويرفض رئيس الحكومة الكشف عنه سوى بعد إعلان المجلس النيابي عن حجم الاعتمادات التي سيوفرها لهذا البرنامج. في حين أن البرلمان رفض سابقاً تحمّل مسؤولية كرة النار عن الحكومة، وبالتالي سيترك هذا الأمر للحكومة المقبلة إن شُكّلت. هذا «اللعب» يجري في وقت أصبحت فيه غالبية اللبنانيين ترزح تحت خط الفقر. فوضع البلد «تجاوز تبذير 8 مليارات دولار استفاد منها الأغنياء وكبار التجار»، يقول رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو: «حذرناهم منذ 15 شهراً ولم يقتنعوا. يومها، رفضنا كل أشكال الدعم نحن الذين خبرنا دعم الخبز والمازوت على مدى 20 عاماً ولم يصل يوماً الى الناس. كل ما جرى هو تمويل الاحتكارات وترسيخها». يكرر برو طلب وقف هذا الهدر الذي إن وجّه الى المحتاجين لن يكلّف أكثر من مليار دولار، ويمكن حينها «استخدام الأموال الباقية لاستنهاض الاقتصاد. لكن نحن أمام مجرمين وأشخاص يجب محاكمتهم ومحاصرة بيوتهم لا قطع الطرقات وتحويل الاشتباك بوجه بعضنا البعض». الهدر الأكبر يحصل في قطاعَي المحروقات والدواء. المعادلة هنا هي كالآتي: «التلطّي وراء الفقراء لخدمة الأثرياء. وهو ما حصل مع دعم أكثر ما يصل الى 3 آلاف نوع دواء بدل 434 محددة من منظمة الصحة العالمية. هكذا انطلقنا من 100 مليون دولار الى دعم يوازي ملياراً و200 مليون دولار». كل ذلك، يساهم اليوم في تسريع الانهيار الحاصل والدفع نحو الفوضى الشاملة عبر تجفيف الاحتياط وهدر أموال المودعين لمضاعفة أرباح الأثرياء والتجار والمصارف.
وزني والكاجو
في مقابلته مع وكالة «بلومبرغ»، أفرد وزير المال غازي وزني حيّزاً كبيراً للحديث عن المواد المدعومة. في خضمّ الأزمة، وفيما الناس يتشاجرون على الأرز والحليب والسكر، ارتأى وزير المال التأكيد أن الدعم سيُرفع عن الكاجو وبعض أصناف القهوة ذات العلامات التجارية المعينة! علماً بأن لا أثر للكاجو على موقع وزارة الاقتصاد ضمن مواد السلة الاستهلاكية الموسعة المدعومة!