قد تكون الغوطة الشرقية الموقعة الأولى في الحرب السورية التي يمكن إدراجها في «الحرب الباردة» بنمطها البوتيني المحدث، والمعلن. كثيرون في المعارضة، كما في النظام، توقعوا ما يحصل في الغوطة وما قد يحصل في إدلب، لكن المقاتلين والمدنيين في ما غدا «الجحيم على الأرض»، لا يعلمون أنهم في حرب باردة متجدّدة، يمكن أن يُقتل فيها ألوف البشر ويُهجّروا ويُذلّوا تحت بصر العالم وسمعه، كما كان مصير آخرين كالفيتناميين والكمبوديين والأفغان قبلهم، وكما يحصل للأوكرانيين الآن. قاتل الغوطيّون حاكماً مستبداً ومجرماً، ثم حليفاً لهذا الحاكم، ثم حليفاً آخر، ولو لم يكن الاثنان أكثر إجراماً لما انبريا لإنقاذه وحمايته ثم جعله دمية لهما في خضم «لعبة أمم» توظَّف فيها كل الصراعات على النفوذ والمصالح.
لم يخطر شيء من ذلك في بال مقاتلي الغوطة، فهم لم يقاتلوا من أجل أميركا والمعسكر الغربي، ولا في بال المدنيين وهم يحاولون الخروج من جحيم إلى جحيم. هؤلاء لم يكونوا ليطمعوا أخيراً بأكثر من أن يتاح لهم البقاء في أرضهم وموطنهم. تحمّلوا كل الويلات من أجل ذلك. قاوموا النزوح بكل ما أوتوا من قدرة. اعتقدوا أن العالم الذي لا يريدهم لاجئين إضافيين يمكن أن يغيثهم فصمدوا واعتادوا مشاهد الدمار وعاشوا لأعوام تحت الأرض وكظموا الحزن على الضحايا حتى صار عزاؤهم الوحيد أن لا يقضي أحباؤهم تحت الركام وأن يتمكّنوا من دفنهم. واعتقد العالم معهم أن فلاديمير بوتين ليس بشار الأسد، وأن روسيا «دولة» وليست نظاماً أو مجرّد آلة قتل، غير أن الاثنين كانا متماهيين دائماً لا يجمعهما مع إيران سوى الوحشية ونزعة المافيات وعصابات القتلة.
كان تدمير حلب لإسقاطها عُدَّ في سياق الصراع السوري الداخلي، على رغم أنه شكّل خطوةً أولى في الصراع الدولي، وقد حُسم في لحظة «الوفاق الافتراضي» بين بوتين ودونالد ترامب، وبعد إحاطة الأخير علماً بما سيحصل. وعلى الرغم من التوتّر الشديد الذي شاب علاقة واشنطن وموسكو أواخر 2016 ونهاية عهد باراك اوباما، إلّا أن الدولتين لم تبلغا حدّ المواجهة، فالولايات المتحدة لم يكن لها نفوذٌ على الأرض كي تدافع عنه، لكنهما ساهمتا في خفض فاعلية النظام الدولي وتعجيزه. تغيّرت الظروف بالنسبة إلى الأميركيين، إذ ساءت علاقتهم مع الروس لكن أصبحت لديهم قواعد في الشمال والجنوب، صاروا أكثر إصراراً على الحدّ من التوسّع الإيراني وترفدهم في ذلك إسرائيل كرأس حربة. ضاعف بوتين تصعيد التوتّر في شرق أوكرانيا، وانتهز حملته الانتخابية لاستعراض أسلحته الجديدة متوعّداً بسباق نووي، ورفع سخونة الحرب الاستخبارية بإرسال عملاء لقتل أحد جواسيسه المنشقّين في بريطانيا… وفي غضون ذلك كان يُشرف شخصياً على حرب الإبادة في الغوطة الشرقية، يأمر بشنّ الهجمات لتنفيذ خطط عسكرييه ويطلب هدنات قصيرة تخديراً للاعتراضات الدولية.
ولا مرّة مسّت فيها الحاجة إلى حزم النظام الدولي، كان هذا النظام جاهزاً لإعمال القوانين والمبادئ التي يدّعيها. أدرك السوريون ذلك بعدما أصبحوا، شعباً وأرضاً، وقوداً لصراعات دولية لا تنفكّ تتعقّد فيتراجع الاهتمام بقضيتهم، فيما استمر النظام يبحث عن مزيد من تلك الصراعات لاعباً فيها وآملاً بأن تستعر أكثر لتزيد من رصيد بقائه، فقد توقّعها بشار الأسد بل توعّد بها وبات الآن يرى نفسه «محظوظاً» بأنها تتفاعل لمصلحته – حتى الآن – أكثر مما كان يطمح، وبأن الظروف جاءته بحليف مثل بوتين كرّر في حلب والغوطة ما سبق أن فعله في الشيشان وكشف شخصياً أنه أمر عام 2014 بإسقاط طائرة على متنها مئة وعشرة ركاب لإقصاء «تهديد» للألعاب الأولمبية الشتائية في سوتشي، وبحليف آخر كإيران سعى إلى أن تلقى مناطق واسعة في العراق واليمن مصيراً مشابهاً لحلب والغوطة، بل ساهم في خرابها.
لم تكن سورية بالنسبة إلى بوتين الساحة التي يجرّب فيها أحدث أسلحته الفتاكة فحسب، كانت أيضاً الساحة التي مكّنته من الذهاب أبعد من الاتحاد السوفياتي الذي حاول ولم ينجح في تطويع القانون الدولي لئلا يبقى غربياً ولئلا يُنفّذه الغرب بمفاهيمه فتسود قيمه، أما بوتين فقد مزّق «كتاب القواعد الدولية»، وفقاً لتعبير وزير الدفاع البريطاني غافن ويليامسون. ولا يتعلّق الأمر فقط بالسعي إلى قتل الجاسوس السابق سيرغي سكريبال وابنته «عقاباً على خيانته»، بل خصوصاً باستخدام غاز الأعصاب «نوفيتشوك»، فإذا رُبطت هذه الواقعة بالدفاع الروسي الشرس عن استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي والإصرار على عدم إدانته أو محاسبته، تتأكد نية روسيا «شرعنة» هذا السلاح خصوصاً أنه يُستخدم تحت إشرافها في سورية. أما التجارب الأخرى التي أنجزها بوتين، اعتماداً على الأزمة السورية، فتمثّلت في تمارين متواصلة على إشهار «الفيتو» لتعطيل مجلس الأمن، بالتالي إغلاق النظام الدولي لتغييره. وفي المرّات النادرة التي وافقت فيها موسكو على إصدار قرار دولي كانت تضمن مسبقاً أنه لن يُحتَرَم ولن ينفّذ، والقراران 2254 (ترتيبات الحل السياسي) و2401 (وقف إطلاق النار في الغوطة) مثالان واضحان. في المقابل، لا تطلب موسكو أي قرار لأنها تنفّذ إرادتها مباشرةً وبالقوة وبأوامر الرئيس لا بموجب القانون ولا تتورّع عن ارتكاب إجرام الدولة.
مع بوتين في ولايته الرابعة المديدة، حتى عام 2024، لا بدّ من توقع نماذج مشابهة من السياسة المتشدّدة وقد يجد العالم أنه لم يرَ شيئاً بعد من مفاجآت الرئيس الروسي. ومن أبلغ العبارات ما آل إليه النظام الدولي الراهن أنه بات مُتَنَازعاً «بين جنون ترامب وإجرام بوتين». فبعد استعراض الأخير أسلحته خلال حملته الانتخابية، والتطويرات التي أشار إليها «البنتاغون» كترجمة لاستراتيجية ترامب الدفاعية، والتقارير المتزايدة عن الاستعدادات العسكرية الصينية، ينبغي التهيّؤ لنمط آخر من الحروب التي قد لا تبقى «باردة» كما هي حتى الآن طالما أن ترامب دشّن عهد «حروب التجارة». وفي هذا المشهد الشامل، تبدو سورية والعراق الميدان المفضّل لخوض المواجهات بلحم الشعوب المنكوبة ودمها. لم يكن أي تفصيل في الغوطة أو عفرين غائباً عن عيون الدول المتدخّلة، إذ تقول أوساط النظام السوري أن روسيا وظّفت كل دهائها لإحباط أي فرصة لضربة أميركية أو غربية على خلفية معارك الغوطة، ولئلا تجد نفسها مضطرّة للردّ بادرت إلى نشر مزيد من العناصر على الأرض لإيهام الأميركيين بأن الوجود الإيراني محدود في الغوطة. ومع ذلك، أنذرت بأنها ستردّ في حال تعرّض جنودها لأي خطر.
لم تتوقّع روسيا قبل عامين ونيّف أن يسفر تدخّلها المباشر في سورية عن المشهد الحالي، فلا شك في أن احتكارها الجو كان ميزة وقد لا يستمرّ كذلك، أما الانتشار البرّي المحدود لعناصرها فبيّنت المتغيّرات الميدانية أنه: 1) أضطرّها للاعتماد على إيران وميليشياتها وبالتالي تحمّل أعباء مشروعها وممارساتها الطائفية، و2) دفعها إلى دعم تشكيل ميليشيات محلية أنشأها ضباط تحوّلوا «أمراء حرب»، و3) حال دون تنفيذ بعض برامجها لإعادة ترتيب أوضاع الجيش السوري وتهيئته لدور جديد بعد انتهاء الصراع الداخلي، و4) حال كذلك دون سيطرتها على مجرى الحوادث في أكثر من موقع… وبعد قتل عدد من ضباطها، وتعرّض مرتزقتها التابعين لشركة «فاغنر» لمذبحة أميركية موصوفة في دير الزور، بدا أن ثمة ثغرةً في القدرة العسكرية الروسية ما لبثت معارك الغوطة أن ساهمت في كشفها. من الواضح أن الأميركيين أخذوا هذه المتغيّرات في الاعتبار وعرفوا مبكراً أن روسيا تريد تجنّب أي تكرار لتجربتها الأفغانية، لكن هذه التجربة غدت نموذجاً إذا تعذّر تكراره يمكن تكييفه مع أي وضع مستجدّ.