أخذ رئيس «التيّار الوطني الحرّ» الوزير جبران باسيل على عاتقه محاولة معالجة العقدة السنّية، بتكليف من رئيس الجمهورية ميشال عون. لا تبدو المهمة الداخلية التي تصدّى لها وزير الخارجية سهلة، لكن سواء نجحت أو أخفقت، فإنّ اللافت هو انّها قدّمت باسيل في «لوك» سياسي جديد، أقرب ما يكون الى «وسيط الجمهورية».
ليس خافياً، انّ باسيل تصدّر الصفوف الأمامية لخطوط المواجهة السياسية طيلة المرحلة السابقة، وهو خاض معارك طاحنة في كل الاتجاهات لاستعادة ما يعتبر انّها حقوق مهدورة للمسيحيين و«التيّار الحرّ»، حتى بدا بمثابة رأس حربة في شارعه، وهي صورة لا تزعجه على الأرجح، وسط قناعته بأنّ التسوية الحقيقية في لبنان لا يصنعها سوى الأقوياء في طوائفهم.
مؤيّدوه يعتبرون انّ «الرجل الذي لا ينام» ساهم في ترميم التوازن الداخلي المفقود، وتمكّن من إعادة الزخم الى دور المسيحيين في النظام والسلطة، بعد حقبة طويلة من الضمور والاحباط، وحوّل «التيّار» رقماً صعباً في التركيبة الداخلية والمعادلات السياسية، مشيرين الى انّ الدليل الأقوى على براعته في هذا الدور، هو نجاحه في إدارة معركة انتخاب عون رئيساً، ومساهمته في الدفع نحو إنتاج قانون انتخاب يصحّح التمثيل، وإقرار حق الاقتراع للمغتربين وقانون استعادة الجنسية، وصولاً الى انتزاع حصّة برتقالية وازنة في الحكومة، وتفعيل حضور وزارة الخارجية خصوصاً في عالم الانتشار.
أمّا خصومه، فيتهمونه بالتعصّب الطائفي واستخدام خطاب نافر وتحريك النعرات واستفزاز الآخرين ومن بينهم حلفاء له، والإخفاق في معالجة ملف الكهرباء والطموح الى استنساخ شخصية بشير الجميل ووراثة مكانه في الوجدان الجماعي المسيحي، والتخطيط منذ الآن لتولّي رئاسة الجمهورية، انتهاءً بالتهمة الأحدث وهي تحميله مسؤولية تداعي تفاهم معراب بين «التيّار» و«القوات اللبنانية».
لكن، وبعد تكليف عون رئيس «التيّار» بـ»مهمة كوماندوس» إنقاذية على جبهة العقدة السنّية، أطلّ باسيل على داعميه ومعارضيه بصورة جديدة لم يألفها الكثر، حتى من هم قريبون منه. بين ليلة وضحاها، إنتقل باسيل من موقع المُتهم بعرقلة تشكيل الحكومة ومحاولة تحجيم الآخرين، الى موقع الوسيط و«فاعل الخير» الذي تُفتح أمامه كل الأبواب.
إستشعر باسيل برهبة المسؤولية الملقاة على عاتقه وبهيبة الدور المُستجد عقب «التكليف الرئاسي»، وهو الذي يعلم أنّ انطلاقة «الحكومة الأولى» للعهد (وفق تصنيف عون) باتت تتوقف على نجاحه في معالجة آخر العِقد التي لا تزال تعترض ولادتها المنتظرة.
إتسع صدر باسيل الذي كان يُستفز أحياناً بسرعة، وصار يختار مفرداته بعناية أكثر وانفعال أقل. تخلّى عن البذة السياسية «المرقطة» وراح يحفر بـ«الإبرة» في صخرة العقدة السنّية، وهو حفر يتطلّب الصبر والمثابرة وتدوير الزوايا والنَفَس الطويل، خلافاً لمتطلبات المعارك الانتخابية والسياسية التي تستوجب امتشاق أسلحة من نوع آخر.
أمام التحدّي الجديد، تصرّف الرجل على قاعدة، انّ فرص كسبه تتوقف بالدرجة الأولى على مقدار ما يبديه من براغماتية وانفتاح، بعيداً من تكتيكات الصراع التقليدي وأدواته، وانّ معيار القوة هنا يكمن في مدّ الجسور وليس في قطعها.
والمفارقة، انّ الذين عُرفوا بعلاقتهم الفاترة او الباردة مع باسيل، كانوا أول المرحّبين بالوساطة والمتحمسين لإنجاحها، وهذه لحظة استثنائية، يبدو رئيس «التيّار» أمام تحدّي التقاطها والبناء عليها. دار باسيل دورة شبه كاملة حول «خط الاستواء» السياسي، حيث التقى في إطار مسعاه أغلب ألوان الطيف اللبناني، قافزاً فوق حساسيات وحسابات كانت تسجنه خلف قضبان الإصطفاف الحاد.
حتى الأمس القريب، كان بعض الذين التقاهم باسيل لا يرون فيه سوى مشكلة متمادية، فإذا بهم يستقبلونه مبّشراً بالحل. وهو أيضاً كان ينظر إليهم في إعتبارهم عقبة على طريقه، فإذا به يقتنع بوجوب ان يصبحوا شركاء له في الهمّ والهمّة. لقد أدرك رئيس «التيّار» انّ الأزمة يمكن ان تكون صنيعة طرفين، لكن الحل هو صنيعة الجميع.
لطالما اعتبر خصوم باسيل، انّه يشكّل عبئاً على عهد عون وخاصرة رخوة له. بمعزل عمّا إذا كان هذا الاستنتاج صحيحاً ام لا، يقرّ هؤلاء، بأنّ باسيل يقود هذه المرّة «كاسحة ألغام» لفتح الطريق أمام العهد والحكومة… فهل تنتهي وظيفة باسيل كسفير للنيّات الحسنة ويعود الى «الخندق» بعد تشكيل الحكومة، أم انّه سيكرّس وجهه الجديد ويطوّر التجربة؟ وهل سيتمكن من اقناع المرتابين في نياته بأنه «ظل الرئيس» وليس «رئيس الظل» أم إن أحكامهم غير قابلة للاستئناف؟