IMLebanon

جبران في موقعه اللبناني

بدأت دور السينما في لبنان عرض فيلم الرسوم المتحركة «النبي» المستوحى من كتاب بالعنوان ذاته لجبران خليل جبران صدر سنة 1923 في الولايات المتحدة، وسط حملة دعائية ترويجية شاركت فيها منتجته سلمى حايك التي جاءت إلى بيروت للمناسبة.

لا تعنينا هنا قيمة جبران الأدبية والثقافية، وهي قيمة تعرضت للكثير من التشكيك بعد سنوات قليلة من وفاته سنة 1931، أولاً من جانب صديقه ميخائيل نعيمة الذي وضع كتاباً كاملاً يحمل عنوان «جبران خليل جبران» يفصل فيه الكثير من المآخذ الشخصية والأدبية على جبران ويكشف أساليب الكاتب في التحايل والادعاء والمبالغة في التسامي الإنساني ناهيك عن «نسخ» بعض الشذرات التي وضعها الفيلسوف الألماني نيتشه وسوى ذلك. وبعد ثلاثة عقود تقريباً صدر كتاب الشاعر توفيق الصائغ «أضواء جديدة على جبران» الذي تناول أيضاً شخصية جبران وعمله وسعيه إلى تقليد أعمى لعدد من كتاب المرحلة الرومانسية، خصوصاً الشاعر والرسام البريطاني وليام بليك. يضاف إلى ذلك عدد من المقالات النقدية القاسية التي تناولت جبران ومنها ما نشره قبل أعوام الناقد البريطاني المرموق روبرت أروين في مجلة «لندن ريفيو أو بوكس».

نُنحي كل هذه السلبيات جانباً ونتركها لأهل الأدب ليقولوا فيها ما يرون. ما يعنينا هنا مسألتان. الأولى أن جبران أدى، من دون علمه أو موافقته طبعاً، دوراً محورياً في بناء الأسطورة المؤسسة للبنان بعد الاستقلال وكان ركناً ركيناً في منظومة الهيمنة الثقافية التي أرست حكم «المارونية السياسية» التي هُزمت في نهاية الحرب الأهلية عام 1990. اعتمدت تلك الهيمنة على تصوير متخيل للبنان خال من الصراعات ويشكل نقطة لقاء لحضارات الشرق والغرب والتعايش الديني والطائفي. لبنان المتطلع إلى الأعالي والجبال الخضر والسماء الزرقاء من دون أن يشكو أهله من أي شيء ما داموا ملتزمين بأوامر الدولة ونواهيها. أما أن تكون هذه الدولة مختلة التوازن في مكوناتها الطائفية وفي تمثيلها لمصالح الفئات الأشد حرصاً على بقاء لبنان من دون مقومات الدولة كالاقتصاد المنتج والعدالة الاجتماعية والتساوي أمام القانون، فهذا من النوافل التي رفضت الطبقة السياسية السابقة النظر وتجاهلت الدعوات الإصلاحية، إلى أن انفجر لبنان ذات يوم من شهر نيسان (أبريل) 1975.

لم يكن جبران خليل جبران العنصر الوحيد في آلية السيطرة الأيديولوجية القديمة. لقد شارك آخرون، كانوا واعين تمام الوعي للمهمات المناطة بهم لإنتاج الصورة الخرافية للبنان الواحة والمقهى والملهى. عشرات من الفنانين والموسيقيين والشعراء والكتاب تعاونوا من دون أقل ارتجافة يد في بناء صرح التكاذب والاستغفال المتبادلين بين اللبنانيين.

المسألة الثانية هي أن نهاية الحرب لم تُوفر المقدمات اللازمة لبروز هيمنة ثقافية بديلة عن تلك التي شيدتها المارونية السياسية. انكسرت المارونية السياسية، لكن الأطراف المحلية المنتصرة (بالأحرى التي تصورت نفسها كذلك)، عجزت عن استبدال لبنان الجبلي الذي يسيّره «المختار» الحكيم وحيث تُسوى مشكلاته بحلقة زجل قرب نبع الماء، بلبنان المتطلع إلى السلام والعدالة وإعادة البناء بعد حرب ضروس دمرت المجتمع والدولة وفتحت الباب عريضاً، أمام تسلط أجهزة مخابرات حافظ الأسد ثم ابنه.

لا معنى اليوم لاستعادة جبران إلا معنى الإفلاس في المخيلة الثقافية للبنانيين وعجزهم عن قبول واقعهم الفقير إلى الجمال والسمو إلا بمقدار العودة البائسة إلى ماضٍ لم يوجد إلا على جداول أعمال فئات سياسية ضحلة الثقافة والأخلاق. وهذا كلام يقال اليوم فيما يتعرض اللبنانيون لهجوم متعدد المصدر، يأبى أصحابه التعرف إلى أنفسهم على نحو أسوأ مما فعل اللبنانيون في ماضيهم.