هدنة الأسبوع في سورية ناجحة، حتى الآن، والخروقات لم تمنع تنفس المواطن السوري، خصوصاً المحاصر من هذا الفصيل المسلح أو ذاك. ثمة هيبة لواشنطن وموسكو أدت إلى موافقة حلفاء العاصمتين، على رغم تحفظ يرى في الهدنة شأناً أمنياً بلا أبعاد سياسية ملموسة، بل إن الاتفاق لم ينص على آليات مراقبة عربية أو دولية، لأن الرقابة معقودة للجيش الروسي الذي يقدم تقريراً إلى الولايات المتحدة.
من علامات الهدنة صمت السلاح وتقديم المساعدات العاجلة، الغذاء والدواء، للمحاصرين، وارتجاج الأطراف المتقاتلة من صدمة سلام موقت يلجم عدوانيتها، مع ما يعني ذلك من تعوّد على فترات هدوء تتيح التروي في التفكير السياسي، فلا تكون الأفكار متعجلةً من أشخاص تلهبهم الحماسة أو تطفئهم الضربات على الرؤوس.
والهدنة السورية كشفت، من أيامها الأولى، عراء النظام والمعارضة، فإذا هما في صمت السلاح مرتبطان بهذه الدولة أو تلك على رؤوس الأشهاد، وليس كما نعهد في الإعلام وتصريحات وزارات الخارجية. الحرب السورية إقليمية دولية، والمحلّي فيها هو مسرح العمليات لا أصحاب القرار، لذلك يتعب المواطن كثيراً، فيما يحتفظ المقاتل بحيويته لأن أهل ميدان المعركة ليسوا أهله، أو على الأقل لا يشكلون له أولويةً. يأتي التعب إلى المقاتل من أمكنة أخرى ترى الحرب السورية في بداياتها، والمسارات السياسية لم تتبلور بعد. هي حرب النهاية المؤجلة، أو أنها لن تنتهي فيصيبها ما أصاب حروباً «أهلية» تحولت نزاعات باردة، ونقلت المقاتل من المتراس إلى البرلمان. أما المواطن فسيختار أهون الشرّين، التهميش بدل الموت قتلاً.
ويبدو الاتفاق الأميركي – الروسي الذي أنتج الهدنة فرصةً لموسكو ربما تنتشلها من الغرق في المستنقع السوري، هي التي أحضرت فرقاً من جيشها إلى البلد الملتهب وأقامت فيه قاعدتين عسكريتين. والفرصة لم تكتمل لأن لافروف وكيري يتبادلان الشكوك، بحيث يبدو الاتفاق أشبه بمخطط مبدئي لاحتواء الحرب لا حلها، وقد يكتمل المخطط حين يقبله الرئيس الأميركي الجديد، ويتشاور في شأنه مع الحلفاء قبل أن يبلور ملاحظاته بالاتفاق مع موسكو.
الحرب الأميركية – الروسية المشتركة في سورية ضد «داعش» و(ربما) «النصرة» هي المكسب الذي حققته موسكو، لكون واشنطن صارت إلى حدّ ما شريكاً ميدانياً، بعدما كانت في موقع المنافس أو المعرقل، ونقطة الشك بين طرفي الاتفاق هي الموقف العملي من «النصرة» (أو «فتح الشام»)، فالاتفاق يصنفها إرهابيةً مثل «داعش»، لكن التصريحات الفرعية لأصدقاء الولايات المتحدة (تركيا مثلاً) تهمل ذكر «النصرة»، وتصل الأمور بمعظم المعارضة المسلحة إلى التحفظ عن استهداف «النصرة»، ما يعني استحالة التفريق بين المسلحين المعتدلين ومسلحي الجبهة التي استأذنت قائدها أيمن الظواهري بتغيير اسمها فأذن وأعطاها صلاحية الاجتهاد في إدارة حرب سورية.
وليس المسلحون فقط من يتضامن مع «النصرة». كان المعارض المدني بكامل قيافته على شاشة التلفزيون يناظر خصمه السياسي بالقول إنه يتمسك بالتحالف مع «النصرة» على رغم اختلافه العقائدي معها، لأن لهما عدواً مشتركاً هو بشار الأسد. لكنه لم يعرض تصوره لمرحلة ما بعد الأسد، وكيف ستكون علاقته، هو المدني الضعيف، مع «النصرة» المتمكنة والمتمسكة بأيديولوجيتها، وأي صورة جديدة لسورية سيرسمها مع «النصرة» وسائر مشتقاتها؟
قد تحضر في هذا المجال فكرة التخلي عن التحالف مع «النصرة» في مقابل تخلي بشار الأسد عن «حزب الله» اللبناني وفرق مشابهة أحضرتها إيران لدعم النظام. ولكن، من يضبط عملية التبادل هذه، وهل تمكن المساواة بين عناصر «النصرة» السوريين وداعمي الأسد الآتين من وراء الحدود؟
هذه ليست النقطة الوحيدة لتعقيدات الوضع السوري، تعقيدات تتطلب أكثر من هدنة وأكثر من حوار سياسي إقليمي ودولي للحدّ من أخطار حرب سورية على محيطها والعالم. وفي الانتظار، يشهد الشعب السوري مزيداً من القتل والدمار، مع فترات قصيرة لراحة المحاربين، كما يشهد العالم متغيرات في الموقف من سورية، كان آخرها المتغير في سلوك رجب طيب أردوغان، بعد الانقلاب التركي الفاشل.