IMLebanon

الجِنّ صالح ينبعث في اليمن.. أترتاح سوريا؟

في العام ٢٠٠٥، كان الرئيس علي عبدالله صالح قد أعلن عزوفه عن الترشح لولاية جديدة. لم تمضِ أشهر قليلة حتى عاد عن قراره كما كان منتظراً. تلك كانت ولا تزال طريقته في الإحجام والإقدام. التقيتُ آنذاك برئيس مجلس النواب شيخ مشايخ قبيلة حاشد، الرجل المتّسم بالحكمة اليمانية عبدالله بن حسين الأحمر. سألته عن ترشح صالح. أجاب دون تردّد: «جني تعرفه ولا أنسي ما تعرفه». هكذا استمر التحالف بين الزعيم القبلي والرئيس المترعرع أصلاً في قرية آل الاحمر، وواصل صالح رئاسته التي استمرت ٣٤ عاماً. كانت السعودية آنذاك قد نسجت خيوطاً قوية مع الشيخ عبدالله والرئيس، وكان الأمير سلطان هو الراعي واحد أبرز ممولي زعيم القبيلة.

من شاهد يوم السبت مئات آلاف اليمنيين ينزلون إلى شوارع صنعاء، لاحظ على الأرجح ان الشيخ عبدالله الأحمر كان على حق. ليس غير علي عبدالله صالح يعرف كيف يقوم من تحت الرماد. ليس غيره يدرك كيف ينسج تحالفات عصية على المنطق، فيضع الخصوم دائماً في موقع حرج. خصمه الأول هذه المرة هي السعودية التي وصفها في آخر خطاب له بـ «الشقيقة الكبرى».

اليمن بلد صعب الحُكم رغم طيبة أهله وأصالتهم وعراقة حضارتهم. هو مبني على نظام قبلي له قوانينه وأعرافه. لم تكن القبيلة دائماً في المكان الصحيح. قبيلة حاشد نفسها خذلت آل الأحمر حين لم تقف الى جانب العائلة بعد أن أُعدم الإمام أحمد (حاكم اليمن آنذاك) والد الشيخ عبدالله وشقيقه. لكن القبائل تعرف متى تناصر ومتى تعادي. هنا تختلط المبادئ بالتقاليد بالمصالح المادية. وعلي عبدالله صالح يدرك تماماً ذلك ويعرف كيف يوظفه.

الفقر ينهش لحم 80 في المئة من أبناء اليمن. البطالة ترمي ثلثي الشباب في أتون الضياع او الحرب. الأمية هي وأحدة من أعلى النسب في العالم. وريقات «القات» الشهيرة كادت تقضي على كل نشاط اجتماعي او اقتصادي او ترفيهي آخر. وكأن كل هذا لا يكفي، حتى جاءت الحرب و «عواصف» الجيران والصراع السعودي الايراني لتراكم الدمار على الدمار.

صالح ثعلب السياسة

لم يكن مفاجئاً لمن كان يزور اليمن قبل سنوات، أن يرى علي عبدالله صالح ذا الأصول الفقيرة ويتيم الأب والضابط الذي اخترق كل القواعد التقليدية في الوصول الى السلطة، جالساً في «مقيله» (اسم الجلسة اليمنية) حيث أغصان القات توزّع على الضيوف، يتبادل الأحاديث مع وزير الى يمينه ومعارض الى يساره وإنسان عادي وصحافي وطبيب وغيرهم… عرف الرجل كيف يلعب على التناقضات. احترف توظيف المال لشراء معارضين وإعلاميين. اعتمد على غريزته السياسية وحنكة أبناء القبائل (هو من حاشد) فراح يؤيد أميركا في قراراتها ضد متهمين بالإرهاب في بلاده، ثم يحمي المتهمين (الشيخ عبد المجيد الزنداني خير مثال). تارة يعتمد على الاشتراكيين لصياغة الوحدة معهم، ثم يقاتلهم مع الإسلاميين، ثم يؤلب المعارضة ضد الإسلاميين، فيحتكر الحكم أو يكاد. ها هو أخيراً يتحالف مع ألد خصومه الحوثيين بعد 6 حروب ضدهم في صعدة، ليضع الجميع أمام واحدة من أحجيات السياسة ودهائها في هذا الوطن العربي الجريح.

كاد خصمه الاخواني الشيخ حميد الأحمر ابن الشيخ عبدالله يقتله حين قصفه في القصر الرئاسي. لكنه قام من تحت القصف. داوى حروق الجسد والوجه واليدين. ضمّد الجراح واستعاد زمام السياسة. يعرف كيف يتراجع ومتى يتقدم. أوحى بالتراجع حين تنازل عن الحكم وسط بدعة رياح الربيع العربي وبعد أن فاقم الفساد من نقمة اليمنيين ضد السلطة وأثريائها الجدد (صالح نفسه يتربع على ثروة هائلة). قبِل المبادرة الخليجية. شجّع الحوار مع السعودية. لكنه على الأرض راح يقاتلها ويقوّي دعائم تحالفه مع الحوثيين (برغم إدراك الطرفين أن الثقة الكاملة غير موجودة بينهما). قاتل السعودية بصلابة نادرة. ثم ها هو قبل ايام يمد لها اليد طالباً التفاوض. وها هو يقول إن إيران لم تساعده ويطالبها بترك اليمن وشأنه. مرة جديدة ينقلب علي عبدالله صالح على كل شيء ويستعيد زمام المبادرة. عقد جلسة للبرلمان لتشريع «مجلس سياسي» ليصبح المجلس هو الشرعية المقبلة، ثم دعم الشرعية بالتظاهرة المليونية في صنعاء. وقريباً ستولد حكومة، ومن يدري، قد يعود صالح رئيسا، رغم ان المنطق يقول العكس.

لا شك في أن كل هذا يمهد لأمرين لا ثالث لهما بالنسبة لصالح وحلفائه: فإما أن تقبل السعودية بالتفاوض من منطلق الند للند (ما يعني أن «عاصفة الحزم» انتهت دون نصر)، وأما أنه سيفرض نفسه محلياً وإقليمياً ودولياً بديلاً سياسياً وشعبياً فيُحرج الجميع. اشتدّ عوده حين ضعفت السعودية في اليمن. استعاد قوته بعد عام ونصف من «عاصفة الحزم» التي لا هزمت الحوثيين وصالح وجيشه، ولا هي منعت استمرار القصف على المناطق الحدودية السعودية. لكن صالح يدرك ايضاً بحنكة ابن القبيلة والمتمرس بالسلطة وكواليسها، أنه لا يستطيع الانتصار وأن السعودية لن تقبل الهزيمة. لو كان يستطيع لما احتاج الى مد اليد لـ «الشقيقة الكبرى». الحرب أنهكت الجميع ولا بدّ من حل. ثم أنّ من يعرف طبيعة تفكير صالح، يدرك ان الرجل يخاطب أيضاً وخصوصا الغربيين وعلى رأسهم اميركا. هؤلاء ما عادوا قادرين على تغطية المجازر التي تقع في اليمن، ولا هم قادرون على ترك «القاعدة» والإرهاب يتمددان أكثر بسبب الحرب.

ما علاقة الأمر بسوريا؟

العلاقة تبدأ من ترابط الجبهات في المنطقة. لا يمكن الفصل بين اليمن وسوريا والعراق ولبنان والبحرين. هذه الدول هي محور المواجهة السعودية مع ايران. صحيح ان طهران لم تقف الى جانب الحوثيين وصالح كما فعلت في سوريا والعراق. وصحيح أكثر أنها نصحت الحوثيين بعدم الخروج من صنعاء صوب الجنوب. هي قدّمت المشورة وربما أرسلت أسلحة وأموالاً محدودة سابقاً وليس منذ بداية الحرب. ربما «حزب الله» قدّم مستشارين ودرّب حوثيين. لكن الأكيد أن إيران لم تتعامل مع اليمن كواحدة من جبهاتها الأساسية الا بالموقف السياسي. وايران التي كانت خارجيتها أكثر تعبيراً عن الموقف حيال اليمن من الحرس الثوري، تعرف أن السعودية تتعامل مع الجبهات هذه كسلة واحدة. تريد الرياض أن تربح في اليمن حتى لو خسرت في سوريا. اليمن عمقها الاستراتيجي وبوابة أمنها. لعل طهران تدرك تماماً ذلك بالرغم من حساسية باب المندب وأهميته. هي على الأرجح لن تعارض صفقة حين تصل الأمور الى مرحلة إنهاء الحروب. الصفقة تعني أن يربح الحلف السوري الروسي الإيراني في سوريا.

من هذا المنطلق، يمكن فهم كلام الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله حين خاطب السعودية قبل أسابيع قليلة قائلاً: «لديكم فرصة بأن تكونوا شركاء بمعالجة أوضاع المنطقة أو يطلع لكم حصة»، وهو كان يتحدث عن استعداد في العراق وسوريا واليمن والبحرين وإيران للتفاوض. هذا ليس كلاماً عابراً، حتى ولو أن الخطاب تضمن تهديداً بهزيمة المشروع السعودي.

السعودية بعد تركيا

منذ حديث الرئيس باراك أوباما لمجلة «اتلانتيك» والذي انتقد فيه حلفاءه في الخليج. مروراً بالنقاشات داخل الكونغرس الاميركي حول السعودية، وصولاً الى قرار البرلمان الأوروبي منع تصدير الاسلحة الى السعودية، ثم قرار الامم المتحدة بوضع ثم رفع السعودية (مؤقتاً) عن اللائحة السوداء بشأن حقوق الأطفال في اليمن، كان واضحاً أن ثمة ضغوطاً غربية بدأت تمارس فعلياً على السعودية. فهل من قبيل المصادفة ان تكون استعادة علي عبدالله صالح كل مظاهر القوة السياسية والشعبية بعد العسكرية، متزامنة مع تحوّل في الخطاب الاميركي حيال السعودية في اليمن؟

قبل أيام، قال السيناتور الأميركي، كريس مورفي، هناك بصمة أميركية على كل حياة تفقد في اليمن، لماذا؟ لأنه «وبرغم أن السعودية هي مَن تلقي القنابل من طائراتها فهم لا يستطيعون القيام بذلك دون الولايات المتحدة الأميركية»، اضطرت الخارجية الأميركية للتوضيح فأكدت الاتهام بدلاً من ان تصححه. قال الناطق باسمها: «لقد أطلعنا السعودية على الأمور التي تثير قلقنا…». ثم قبل يومين قال المتحدث باسم البنتاغون آدم ستامب: «حتى لو كنا نساعد السعوديين في ما يتعلق بوحدة أراضيهم، فإن ذلك لا يعني إحجامنا عن الإعراب عن القلق إزاء الحرب في اليمن وكيف تمّ شنها». والآن، أميركا تسحب مستشاريها العسكريين الذين يشاركون في تنسيق الغارات الجوية على اليمن.

تفاهمات ام مزيد من الحروب؟

ليس بالمصادفة أن تكون هذه المواقف الاميركية حيال السعودية مشابهة تماماً للضغوط التي مورست على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. لعل في الأمر ما يستحقّ التعمّق في أسبابه، والنظر من زاوية التفاهمات الأميركية الروسية… ما عاد امام الإدارة الاميركية الحالية كثير من الوقت، فإما أن تمضي بالتفاهمات فتنتهي الحرب السورية وفق الرغبة الروسية مقابل إنهاء حرب اليمن بالتساوي بين السعودية وخصومها والاتفاق بشأن العراق، وإما أن يستمر منطق الحروب بانتظار الإدارة الأميركية المقبلة. في الحالة الثانية، فإن اليمن وسوريا والعراق مرشحة لتطورات كثيرة، الهدف منها رفع مستوى الضغوط على السعودية وحلفائها، خصوصاً إذا ما نجحت روسيا وإيران فعلياً في تحييد تركيا مقابل منع إقامة كيان كردي مستقل في الشمال السوري.