في الطريق إلى تلك الكاتدرائية لا تزال تنتصب وسط ساحة الشهداء تلك القبضة المرتفعة التي كانت تمثل شعار تلك الثورة. كان المطر يلفّ ساحات المدينة الحزينة، وكانت تلك القبضة وحيدةً، وكانت الساحة فارغة من الناس باستثناء عابري السبيل الذين ما عادت تلفت أنظارَهم وكأنّها صارت أثراً منسياً في التاريخ وفي الجغرافيا، كأنّها صارت شيئاً من الماضي على رغم أنّها لم تتجاوز السنوات الأربع. مثل كثيرين حلمت جيزال خوري بأنّ تلك الثورة كان يمكن أن تقود إلى تغيير كبير في التركيبة السياسية في لبنان، وفي طريقة إدارة الدولة، ولكنّ تلك الأحلام تكسّرت بانتظار ولادة جديدة. حتى تلك الأيادي التي امتهنت إحراق تلك القبضة أكثر من مرة، لم تعد تهتمّ لها وتركتها منتصبة وحيدة مرتفعة، ولكنّها من دون قوة، ومن دون أفق، ومن دون ناس ومن دون روح.
ثورتان وكاتدرائيتان
من هناك انطلقت أيضاً قبل 18 عاما في 14 آذار 2005، ثورة لبنانية واسعة رفعت شعارات الحرية والسيادة والإستقلال، استقلال 2005، الذي لا يزال شعاراً مرفوعاً مطلوباً للتحقيق. 14 آذار تحقّقت في ظل وجود الجيش السوري في لبنان، ولكنّها تراجعت أمام قبضة “حزب الله” وانقلاباته المتتالية على مدى أعوام وصولاً إلى محاولته كسر قبضة 17 تشرين. من ساحة 14 آذار ارتفع اسم سمير قصير كواحد من قيادات تلك الثورة وكاتبي شعاراتها. ومن تلك الساحة ولدت أحلام كثيرة أيضاً ولكنّها تكسّرت أيضاً، ولا تزال تنتظر ولادة جديدة. بين 17 تشرين 2019 و17 تشرين 2023 تبدّل المشهد كثيراً. بعض ما كان تبقى من الدولة والسلطة ضاع في قبضة “حزب الله”. في 17 تشرين 2019 كان هناك أمل بتغيير يمكن أن يحصل، وبأنّ دولة جديدة يمكن أن تولد. في 17 تشرين 2023 لا وجود للدولة وكأن “حزب الله” صار هو الدولة. وحده يقرّر متى يعلِن الحرب ووحده يأخذ اللبنانيين إلى قدر لا يريدونه، ووحده يأسرهم في استراتيجية دينية عميقة لا علاقة لهم بها. جرّب ذلك في حرب تموز 2006 ويعيد الكرّة اليوم في حرب لا حدود لها ولا آفاق.
ربما من قبيل الصدف أن يودّع لبنان الشهيد سمير قصير بعد ثورة 14 آذار، وأن يودّع جيزال خوري قبل يوم واحد من ذكرى ثورة 17 تشرين. في 2 حزيران 2005 اغتيل سمير قصير أمام منزله في الأشرفية وكان اغتياله الأول في سلسلة الإغتيالات التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وطالت قيادات من قوى 14 آذار. عندما اغتالوه كانوا يغتالون عمرا من عمر جيزال خوري، زوجته ورفيقته، بعد أشهر على زواجهما وسكنهما في ذلك المنزل في الأشرفية. كما شُيِّعت جيزال في كاتدرائية مار جرجس للموارنة، شُيِّع سمير قصير في كاتدرائية مار جرجس للروم الأرثودكس في وسط بيروت أيضاً. مرّ موكب تشييعه من أمام جريدة “النهار” التي كان يكتب مقاله الأسبوعي فيها، ومن أمام ضريح الرئيس الحريري قرب جامع محمد الأمين ليوارى الثرى بعدها في مدافن مار متر للروم الأرثوذكس في الأشرفية. في 16 تشرين عادت جيزال خوري إلى مدافن عائلتها في مسقط رأسها في العقيبة في كسروان، في نهاية حزينة لحوار عمر لم يكتب له أن ينتهي بسلام بل بألم ووجع، ولكن بكِبَر.
محطات ومسيرة مهنية
على رغم تنقّلها في أكثر من محطة تلفزيونية وتقديمها لأكثر من برنامج بقي برنامج “حوار العمر” هو العلامة الفارقة في مسيرة جيزال خوري المهنية والسياسية. وبقي البرنامج أيضاً علامة فارقة في تاريخ البرامج التلفزيونية الراقية البعيدة عن الصراخ والإبتذال والتحديات والسياسات اليومية، وقد استطاع أن يحافظ على نسبة مشاهدة عالية طوال خمسة أعوام من دون أن يتخلّى عن أناقته وموضوعيته ورصانته التي كانت كلّها تشبه رصانة وموضوعية جيزال خوري.
ولد اسم “حوار العمر” في مكتب سيمون أسمر الذي كان أحد الأسماء الكبيرة في عالم البرامج الفنية والمنوّعات، وفي المؤسسة اللبنانية للإرسال. في بداية طرح فكرة البرنامج كان من المتّفَق عليه أن يستضيف شخصيات لها تاريخها وأن يقدّمها بطريقة سهلة إلى الجمهور للخروج من نمطية البرامج الثقافية الناشفة. وكان الإقتراح الأولي يقضي بأن يتمّ تقديم 13 حلقة لموسم تلفزيوني واحد، على أن يعاد النظر في تطوير البرنامج تبعاً لاستقطابه، وخلال عرضه. وعندما نجحت الفكرة استمرّ البرنامج خمسة أعوام قبل أن يخرج عن الشاشة بقرار من رئيس مجلس إدارة المؤسسة اللبنانية للإرسال بيار الضاهر.
قبل “حوار العمر” كانت لجيزال خوري تجارب تلفزيونة مع تقديم أكثر من برنامج. ولكنّ اقترابها من البرامج السياسية بدأ بعد عام 1994. في آذار من ذلك العام بعد تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل وقرار حل حزب “القوات اللبنانية”، الذي كانت تتبع له المؤسسة اللبنانية للإرسال، صدر عن مجلس الوزراء الذي كان يرأسه الرئيس رفيق الحريري في ظلّ رئاسة الرئيس الياس الهراوي للجمهورية، قرار بوقف الأخبار والبرامج السياسية على المحطات اللبنانية. انصاعت هذه المحطات للقرار وتحول الفضاء اللبناني إلى صحراء فارغة في ظل الصحراء السياسية الداخلية. بعد الرجوع عن هذا القرار، قدّمت جيزيل خوري برنامج “لكل حدث حديث” الذي كان يتناول مواضيع سياسية ورافق انتخابات 1996 النيابية. بعده بدأت تقديم برنامج “حوار العمر” بعدما كانت تشارك في تقديم إحدى فقرات برنامج “دار الفنون” المنوّع الذي كان يشرف عليه سيمون اسمر.
كان فريق إعداد البرنامج مؤلفا من عماد موسى ونجم الهاشم وعبيدو باشا وأحمد علي الزين. نظراً لما كان يتطلّبه الإعداد من وقت ومعرفة وإحاطة بالشخصية التي تتم استضافتها وكتابة نصوص التقارير المصوّرة التي تُعرض خلال الحلقة، وتنظيم الإتصالات المباشرة على الهواء والمقابلات مع الشخصيات المؤثرة في تاريخ الضيف. وكان سمير قصير مشاركاً، عن بعد، في أحيان كثيرة في الإعداد واختيار بعض الشخصيات بحكم علاقته الشخصية مع جيزال خوري. استطاع البرنامج أن يكوِّن شخصيته الثقافية والسياسية وأن يحتلّ موقعاً متقدّماً بين البرامج على المحطات اللبنانية والمحطات الفضائية العربية. وكانت المؤسسة اللبنانية للإرسال طليعية في هذا المجال بينما كانت الفضائيات العربية لا تزال ضعيفة على المستوى الجماهيري، قبل أن تأخذ “الجزيرة” ثم “العربية” موقعهما الفضائي وتبدآن بث البرامج السياسية.
من “حوار العمر” إلى “اليوم الثامن”
دخل البرنامج في العمق الثقافي والسياسي اللبناني والعربي من خلال مروحة واسعة من الأسماء التي تركت بصماتها في تاريخ لبنان والعالم العربي واتجه إلى شخصيات لها حضورها وتأثيرها خصوصاً في المدى العربي والفلسطيني. من خلاله أمكن التعرّف إلى العديد منها وإن كانت تشكّل تناقضات في السياسة والتاريخ والإنتماء. من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. من أحمد سعيد إلى جمال الغيطاني وكتاباته المنتقدة لعبد الناصر، ومن جوني عبدو وسامي الخطيب من المخابرات اللبنانية إلى شوقي خيرالله الضابط الذي شارك في انقلاب الحزب السوري القومي الإجتماعي. ومن البطاركة مار نصرالله بطرس صفير واغناطيوس الرابع هزيم وشنودة الثالث بطريرك الأقباط الأرثوذكس إلى شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي. ومن الشاعر اللبناني سعيد عقل إلى الشاعر الفلسطيني محمود درويش…
من 13 شخصية كانت مقررة في البداية استضاف البرنامج أكثر من 220 شخصية. وعندما توقّف عن الهواء عام 2001 كان من المفترض أن يعود بلائحة جديدة من الشخصيات. ولكن كانت عودة جيزال إلى الهواء مع برنامج “اليوم الثامن”.
ترافقت دورة البرنامج مع سلسلة من التطورات في العالم العربي خصوصا عودة ياسر عرفات إلى الضفة الغربية وإقامة السلطة الوطنية الفسطينية. شخصيات فلسطينية كثيرة مرّت عبر البرنامج كان من الممكن التعرف على النضال الفلسطيني من خلالها وهي شخصيات رافقت عرفات وكانت معه في الخارج أو ناضلت من داخل فلسطين. وكذلك مرّت في البرنامج شخصيات سورية وعربية كثيرة ولكنها كانت من خارج سياق رجالات الأنطمة. وكان لسمير قصير علاقات خاصة مع هذه الشخصيات التي لعبت بعد ذلك أدواراً في الربيع العربي، وفي الإنتفاضة على حكم الرئيس السوري بشار الأسد.
في أيار من العام 2000 تزامن انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان مع فوز فريق “الحكمة” اللبناني في كرة السلة ببطولة الأندية العربية. أُخِذ على المؤسسة اللبنانية للإرسال أنّها احتفلت بفوز “الحكمة” من دون أن تعطي مساحة للحدث الذي حصل في الجنوب. تقرّر أن تكون هناك حلقة خاصة من البرنامج من كفرشوبا. على رغم الصعوبات التقنية ذهبت جيزال إلى كفرشوبا مع سمير قصير ومع عماد موسى ونجم الهاشم من فريق الإعداد. كان سمير قصير سعيدا بإطلالته من هناك على فلسطين. على رغم الضباب الكثيف الذي ترافق مع هبوط في الحرارة تمّ إنجاز المهمة. عادت جيزال مع سمير وعاد نجم الهاشم وعماد موسى بسيارة جيب خاصة بالمؤسسة. من كفرشوبا إلى الكرنتينا، لم يكن هناك أي حاجز للقوى الأمنية. بين الكرنتينا وأنطلياس كان هناك حاجزان. كان ذلك الأمر دليلا على التحولات الكبيرة الحاصلة في لبنان، وعلى طريقة إدارة الدولة وسيطرة “حزب الله” عليها مستفيدا من الإنسحاب الإسرائيلي.
الحلقة الأخيرة
الحلقة الأخيرة من “اليوم الثامن” كانت مع الرئيس المصري السابق حسني مبارك عام 2002. طلبت جيزال على عجل إعداد حلقة خاصة معه بعدما تمكّنت من الحصول على موعد معه. ولكن المفاجأة كانت بقرار رئيس مجلس إدارة المؤسسة اللبنانية للإرسال بيار الضاهر بوقف البرنامج. هذا القرار تبلغته جيزال بعد عودتها مباشرة من مصر ولم يكن قابلا للمراجعة. كان استديو البرنامج في قاعة الإجتماعات التابعة لمكتب الضاهر في مبنى المؤسسة. سريعاً تم تطبيق القرار وأزيل الأستديو. كانت تلك آخر إطلالات جيزال من ال “أل بي سي”.
على رغم انتقالها إلى “أم بي سي” أولا ثم إلى “العربية” على مدى 11 عاماً، ثم إلى ال “بي بي سي” و”سكاي نيوز عربية” بقي برنامج “حوار العمر” هو العلامة المشرقة في مسيرتها المهنية وكأنّهما دخلا في شخصية واحدة لا انفصال فيها. نهاية العام 2004 تقدّمت مع سمير قصير ونجم الهاشم إلى قناة “العربية” بفكرة برنامج يتناول موضوع الإغتيالات السياسية في لبنان والعالم العربي. بعد أشهر كان يهتزّ لبنان لحدث اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. وفي 2 حزيران كان يهتزّ ثانية في هزّة ارتدادية لاغيتال سمير قصير الذي صار مع الحريري موضوعان لاغتيالين في برنامج “المقصلة” الذي يتهدّد لبنان ولم يتوقّف منذ ذلك التاريخ.