نحن اللبنانيين، من أصغر واحد إلى أكبر واحد، بس اعطونا «فيزا» إلى أيّ دولة من دول العالم المتحضّر، ليس للهجرة إليها واستعطاء خيراتها، بل لمنحنا شرف التمختر في ساحاتها العامة وأمام معالمها التاريخية، لنمشي رؤوسنا مرفوعة نحن القادمين لزيارتها من وطن يخطّ إسمه جيشه وأجهزته بحروف إنجازات أمنية حيّرت أكثر الدول المتحضّرة.
صحيحٌ أنّ فسادنا حقيقة ومشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية موجعة، لكن أغلى ما عندنا اليوم هو ثروة الأمن التي يحسدنا عليها الفرنسي والمكسيكي والتركي… وحتى إذا كنّا نحن نعرّب برامجهم ومسلسلاتهم، نعرف أنهم يستميتون على ترجمة مشاهد حرمان الانتحاري من ارتشاف فنجان قهوة قبل ارتكابه مجزرةً في بيروت، أو اقتباس حلقة من مسلسل القبض على الإرهابي في مراحل «الإنتاج» قبل أن يتمكّن من «إخراج» وحشيّته.
بس نحنا طمّيعين كتير، ونريد أن تغار المؤسساتُ الإعلامية في لبنان وتترجم على شاشاتها وصفحاتها وأثيرها خوفَ الأجهزة الأمنية علينا، وتجنّد صحافيّيها وإعلاميّيها لحماية المشهد العام من كلّ المعارك الواهية ومن خروقات الابتذال والتسطيح والتضليل.
فإذا كان خطر الأمن يدوم لحظةً ويخلّف ضحايا يمكن أن يحصيها مسعف وطبيب، فإنّ خطر الإعلام الملغوم يبيت دهراً ولن تقدر الأجيالُ المتعاقبة على إحصاء ضحاياه المقتولة بأحزمة البرامج الناسفة…
لا أحد يريد إعلاماً بوليسياً مسيَّراً من جهات مجهولة، بل نريد إعلاماً موحّداً وهادفاً وسقفه الحرية، لا جزراً إعلامية متناتشة ومتناحرة على تعريف المواطنة بحسب اللون والطائفة والانتماء… ومثلما يقطف الأمنيّون ثقة الناس بإنجازاتهم، نريد الإعلامَ أن يقطف ثقافة الناس بتوجّهاته.
ماذا يزيد إلى رصيدنا نحن المشاهدين إذا كانت المحطات التلفزيونية تمتلك أحدثَ التقنيات، ولكنها تبثّ لنا الكثير من البرامج التي تعتمد السخافة قاعدةً إعلامية… وأيُّ مسلسلات معروضة على الشاشات ننصح بها أولادنا أو نخبر عنها أصدقاءنا الأجانب إذا كانت غالبيتها تروي قصصَ مخلوقات فضائية مثّلت أدوارَها في فيلات لبنانية.
وكم هي «مُرّة» القهوة التي تريدوننا أن نرتشفها ونحن نتأمّل الصحافة الورقية تزول، لتحلّ مكانها صحافةٌ إلكترونية عصرية لا تترك علاقة شاذة على وجه الكرة الأرضية إلّا وتزيّن بها صفحتها الأولى، وتتسابق وتتقاتل على أحدث أخبار النهود والمؤخّرات.
بعمره ما كان الترفيه مجرّدَ تلطيشات جنسية، ولا كانت الكوميديا مسخرة فقط، ولا كانت البرامج الاجتماعية فضائح ورذائل، ولا حتى الحوارات السياسية كانت معارك، ولم تكن المسلسلات أبداً إلّا صورة مصغّرة عن حكايا المجتمع وتعقيداته… ومنذ نشأتها، لم تكن الصحافة المكتوبة الخادمة التي تنقل أسرار غرف النوم بل كانت دوماً ربّة المنزل التي تدير وتربّي أهل بيتها.
وبما أنّ صناعتنا ضعيفة وتجارتنا مكبّلة، وبما أنّ منتوجات الكشك والزعتر ودبس الرمان باتت مكدَّسة على رفوف المحال في أوستراليا وكندا، وأولاد عمّنا وخالتنا المهاجرين ما عادوا يوصّونا عليها كلّ ما حدا سافر… ليس أمامنا سوى المَخرج الإعلامي لتصدير مشهد ثقافي وطني واعد، وإنتاج برامج دسمة لدرجة يمكننا تهريبها في شنط السفر إلى أقربائنا في المهجر ليبيعوها للمحطات الأجنبية هناك.
بَعْرف صعبة، لكن تخايلوا أننا نتمشّى على الشانزيليزيه مفتخرين بأمننا اللبناني الفريد، وأثناء مرورنا تحت برج إيفل يصطدم رأسنا به من كثرة اعتزازنا بإعلامنا اللبناني… نستطيع أن نتخايل، ولكن يمكننا أن نجتهد أيضاً لنعيد المجد إلى إعلامنا حتى يغار منه الأجانب ويندهش منه الانتحاريّون.