“الستوك” قليل والأسعار نار
تتغير الحروب، تغيّر وجهها، تبدّلت ساحاتها ولاعبوها، لكن تبقى مآسيها واحدة متشابهة لا تتغير. في وسط الحروب الصغيرة والكبيرة التي عاشها لبنان على مدى نصف قرن إلا خمسة أعوام كان ثمة ثابت وحيد رافق كل المآسي وتآخى مع الموت والجراح والخراب هو الزجاج. نعم الزجاج الذي إن بحثنا له عن مرادف في لبنان لوجدنا : قذائف ، صواريخ ، انفجارات، رصاص، وحجارة…واليوم ومع انفجار بيروت الأعنف بدا وكأن السماء الغاضبة أمطرت زجاجاً رصف طرقات الموت ونثر شظاياه في لحم الضحايا.
قصة لبنان الحديث وإصاباته مع الزجاج قصة طويلة عمرها يسبق الحرب اللبنانية ليعود الى العام 1968حين طلي زجاج البيوت باللون الأزرق للتعتيم حتى لا تكتشف الطائرات العدوة أي بصيص ضوء في المدن اللبنانية فتقصفها . ومع إنطلاقة الحرب الأهلية صار الزجاج مرادفاً لجولاتها الحامية والفاترة والباردة.
كانت قذائف الهاون و الأر بي جي والمدافع الميدانية عدوة الزجاج حينها. ويومها كان لا يزال طري العود رقيقاً غير قادر على التماسك ينهار بسرعة وتتناثر قطعه كبيرة مسننة على الأرض كأنها خناجر او سكاكين تصيب ضحاياها في اللحم الحي. حينها، كان الزجاج حين يتكسّر يضمد بالشريط اللاصق أو يستبدل بالورق والنايلون او بالخشب المعاكس الرقيق، ولم يكن غريباً رؤية شبابيك النايلون ما زالت على حالها حتى بعد أعوام من رحيل زجاجها. ومع الوقت تغيرت الحرب وأدواتها، وصارت أكثر عنفاً وشراسة، وأضرارها أشد ضراوة على الناس والمباني. معها تغير الزجاج وأشتد عوده، أتقن لعبة المواجهة وعرف كيف يحمي نفسه من اعتداءاتها. تحول الى زجاج “سيكوريت” صلب قوي متماسك يصاب ويبقى صامداً في أرضه لا ينهار لا يسقط وإن فعل يتحول قطعاً صغيرة غير مسننة الأطراف تنهار بهدوء كأنها لعبة “ليغو” لا تؤذي ولا تنغرز في الأجسام.
من بيته من زجاج…
مع انتهاء الحرب قلب اللبنانيون الصفحة ونسوا قصة إبريق الزيت الزجاجي، تفاؤلوا بأيام أفضل فبدأت في منتصف التسعينيات وأواخرها مرحلة بناء المباني والأبراج ذات الواجهات الزجاجية الكبرى ليتحول الأمر الى “تراند” هندسي يتباهى به كل مصمم او شركة هندسية تود ابتكار صرح مميز. وعلت الأبراج لا سيما في مدينة بيروت وواجهاتها البحرية وعلى تلال الأشرفية و باتت تتنافس ارتفاعاً وتغليفاً بالزجاج. “سما بيروت” في السوديكو أطولها ومعه مبنى مصرف Credit Libanais وبلاتينيوم تاور وسلسلة الفنادق والأبراج السكنية المطلة على الواجهة البحرية لبيروت وناطحات السحاب في أعالي الأشرفية والشوارع المطلة على المرفأ …. تكاثرت أعداد المباني الزجاجية ومعها نسي اللبنانيون أن من اعتاد أن يُراشق بالحجارة لا يصنع بيته من زجاج. إذ توالت الأحداث الأمنية منذ ذلك الحين، بدءاً من الانفجار الذي طال الرئيس الحريري وما تلاه من تفجيرات وعبوات متنقلة هنا وهناك مروراً بحرب تموز وقصف طائرات العدو المدمر، وما تلاها من اعتداءات إرهابية مفخخة.. وكان للزجاج معها مليون قصة وقصة الى ان حصل الانفجار الأكبر او هيروشيما بيروت وحوّل بيروت كتلة من الزجاج المهشم مع تداعي واجهات أبراجها و مبانيها.
يفرط أو يتماسك؟
بصعوبة استطعنا الاتصال بشركة حجازي للألمنيوم والزجاج والتحدث مع مدير الانتاج فيها مالك كرم الذي قال: “إن الزجاج قد يكون عاديا بسماكة 6 ، 8 ، 10 او 12ملم. يتكسّر ويتساقط قطعاً كبيرة إذا ما تعرض للضغط ويستخدم في البيوت والشقق والمباني العادية. أو قد يكون من نوع السيكوريت المعالج ضد الكسر ويعرف باسم safety glass يبقى واقفاً إذا ما تعرض للكسر او الضغط ولا “يفرط” ولا يتساقط على الأرض. وغالباً ما يتكون من طبقتين بسماكة تتراوح ما بين 88 او 1010 او 1212 و ذلك تبعاً لما يتوجب عليه أن يتحمله من ضغط او ثقل. ويُعتمد هذا النوع من الزجاج لواجهات المحلات الكبيرة وواجهات المباني الزجاجية التي تعرف باسم curtain walls. وهذه لها أنواع خاصة من الزجاج تتم دراسة سماكتها وسلامتها بشكل كبير مع المهندسين حتى تكون آمنة و تستطيع تحمل الضغط وسرعة الرياح”.
زجاج البيوت والبنايات التجارية غالباً ما يتم تركيبه عبر شركات الألمنيوم التي تستخدم نوعيات مختلفة وقد تكون النوافذ او الواجهات مفردة اي من طبقة زجاجية واحدة أو من طبقتين (دوبل فيتراج) عازلتين للصوت والحرارة بنسبة كبيرة ويتراوح الخيار بين الزجاج العادي او السيكوريت حسب كلفته.
ما مدى قدرة احتمال الزجاج للضغط ومدى درجات الأمان فيه لا سيما تلك الألواح الكبيرة التي تغطي واجهات المباني؟ يجيب كرم “ان زجاج السيكوريت يتحمل من 5 الى 7 مرات ضغطاً أكثر من الزجاج العادي، فإذا كان هذا الأخير قادراً على تحمل ثقل 10 كيلوغرامات فإن السيكوريت يتحمل 70 كيلو. هو مصمم لتحمل الضغط وكلما ازدادت سماكته ازدادت قدرته على التحمل وصولا الى حد معين لا يعود بعده قادرا على التحمل. والزجاج بطبيعته يلوي مع الضغط وليس جامداً وهذا ما يضيف الى قدرته على تحمل الضغط او الثقل حتى حد معين. كذلك يحاط الزجاج عادة بطبقة من المطاط او السيليكون تمتص الصدمات وتساعد على تخفيف الضغط عن الزجاج. لكن مهما بلغت قدرة الزجاج على تحمل الضغط فهو حتماُ غير قادر على تحمل ضغط انفجار لا سيما إذا كان في مكان مواجه مباشرة لعصف هذا الأخير، أما إذا كان في مكان محايد بعيد عن العصف المباشر فيمكن أن يصمد. كما لا بد من القول إن زجاج السيكوريت مهما كان آمنا فهو حين يتساقط من أمكنة عالية يتسبب باذى لمن يصيبه حتى ولو كان قطعاً صغيرة”.
هل يلبي الستوك الموجود في البلد حاجة بيروت المنكوبة الى الزجاج؟ وهل ستشهد الأسعار انفجاراً يوازي بهوله الإنفجار الأساسي؟ الستوك الموجود لا يلبي حتما الطلب الكبير ، لكننا نسعى الى تلبية الاحتياجات قدر المستطاع يقول احد اصحاب مصانع الزجاج في طرابلس لا سيما وان المصانع في لبنان تستورد الزجاج من الخارج عبر شركات مستوردة كبرى وتعالجه هنا ليصبح سيكوريت او ليتم تقطيعه وفق المتطلبات. والزجاج الذي يستخدم في الأبراج والواجهات يحضر حسب الطلب ولا يكون جاهزاً لأنه يتطلب مواصفات محددة لذا فإن العمل عليه صعب والكميات المطلوبة لمعالجة الأضرار في الأبراج لا شك غير متوفرة كلها وتحتاج الى وقت ليتم تأمين الكمية المطلوبة منها. نسال المصنع ألا يمكن إعادة تدويرالزجاج المحطم الذي يتم جمعه من الشارع فيؤكد ان الأمر غير ممكن حالياً لأن الزجاج يستورد ألواحاً من الخارج لكن رغم تأكيداته بدأت تنتشر على مواقع التواصل رسائل تدعو الى عدم رمي اشلاء الزجاج و بأن ثمة جمعيات مستعدة أن تأتي لفرزه وتوضيبه وربما تستفيد منه بطرق مختلفة.
أما بالنسبة للأسعار فقد ازدادت 50% بسبب الأزمة الاقتصادية من جهة وازدياد الطلب على المادة من جهة أخرى والأسعار تبدأ من 20$ للمتر سماكة 6 ملم وترتفع الى 30$ للـ 8 ملم لتصل الى 70$ لسماكة 12 ملم.
إذا كانت هذه حال زجاج المباني فزجاج السيارات لا يقل عنها تضرراً. لم يتم حتى الآن إصدار إحصاء رسمي بعدد السيارات المتضررة نتيجة الانفجار، لكن يقدر العدد بما لا يقل عن 30000 سيارة فكيف يمكن تأمين أنواع الزجاج الخاصة بكل فئة منها. توجهنا الى شركة طوقتلي الأشهر في تركيب زجاج السيارات لنسأل عن قدرتهم على تلبية الطلب الهائل. بسرعة يجيبنا المسؤول فيها أن الشركة ستلبي بما هو متوافر لديها وبغضب يكمل ” الحراميي سكروا الاعتمادات و التحاويل منذ 7 اشهر ولم يعد بإمكاننا الاستيراد. جمدوا دولاراتنا و منعونا من العمل”. الموجود عندهم اليوم قد يغطي 15 في المئة من السيارات المتضررة في انتظار وصول الشحنات التي طلبوها بسعر السوق السوداء ومن خلال بعض تحويلات الأموال الطازجة. لكن لا يتوقع وصول الكميات المطلوبة قبل شهر الى شهر ونصف.
هل يلبي مخزونهم كل فئات السيارات؟ قادرون هم على تأمين 60% من مختلف أنواع السيارات باسعار تتراوح بين 60 الى 120 دولاراً للواجهة ويبقى الأمل بشحنات تصل قريباً و لكن الى أي مرفأ؟
و بعد من “قهوة القزاز” الى “سما بيروت” علاقة حب ملتبسة بين لبنان والزجاج عسى ان يتممها الله يوماً بنهاية سعيدة