IMLebanon

سياسات لظروف استئنائية

 

يمر العالم في ظروف لم تحصل سابقا لا في التاريخ الحديث ولا القديم. انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة بالأكثرية الكبيرة ليس أمرا عاديا في دولة انتخبت روزفلت وترومان وايزنهاور وغيرهم. هنالك تغيير كبير في الأوضاع والأراء والظروف أنتجت سياسيين جدد بلغة جديدة لا نعرف ماذا ستنتج للاقتصاد العالمي. دونالد ترامب يغير الركائز التي بنيت عليها أميركا من دولة الانفتاح والانصهار والمساواة الى دولة ترتكز على الانغلاق والاقفال والتعامل بفوقية حتى مع الحلفاء. هنالك وقائع يجب أن تدرس وتفسر وهي مثلا لماذا حصل ترامب على نسب عالية من أصوات الرجال السود كما من الرجال اللاتين علما أن التوقعات من كل الجهات كانت تشير الى العكس.

هنالك حقيقة لم يتطرأ اليها معظم السياسيين والخبراء وهي أن أميركا غير جاهزة بعد لتقبل رئيسة لها. لم تصل الولايات المتحدة من هذه الناحية الى النضوج المكسيكي الذي أنتج منذ أشهر رئيسة للمرة الأولى. الولايات المتحدة الدولة العظمى المتفوقة في الأداب والعلوم ما زالت متأخرة من ناحية المساواة بين الجنسين. انتخاب امرأة لرئاسة الدولة ليس بالأمر السهل حتى في أوروبا لكن أميركا حتى الآن فشلت مرتين مع هيلاري كلينتون وكامالا هاريس. هذا هو الموقع الكبير الوحيد الذي ما زال «ممنوعا» على السيدات بالرغم من تفوقهن في كل أو معظم الأداب والعلوم.

 

أنتخب ترامب في رأيه ليصحح الخلل والأخطاء التي حصلت قبلا من ادارات جمهورية وديموقراطية. لكن الأكترية التي أعطيت له في السلطة التشريعية مع الرئاسة هي غير مسبوقة من ناحية حصر السلطات عمليا في يدي شخص واحد يمكنه تغيير الكثير وبسرعة. هنالك طرق جديدة للعمل يتقنها رجال أعمال أمثال ترامب وماسك وتعتمد على نظرية الألعاب “Game Theory” التي هي مزيج من المنافسة والتعاون. فالتعاون يكبر الاقتصادات بينما المنافسة تقسم الحصص بين القوي والأقوى.

سيستعمل ترامب السياسات الصناعية لحماية الاقتصاد الأميركي وجعله يتفوق أكثر على الاقتصادات الأخرى وفي مقدمها الصين. فالسياسات الصناعية وضمنها العقوبات والتعريفات الجمركية والاتفاقيات التجارية تدخل جميعها في عالم الألعاب، اذ تحدد قواعد المواجهة بين اللاعبين. من يقرر أولا ومن يجيب وما هو المحتوى؟ هذه السياسات ترفع الأسعار لأنها تخفف المنافسة وتزيد التكلفة، وبالتالي تشعل نار التضخم وتسيء الى التجارة الدولية التي هي مصدر النمو والازدهار.

 

الاقتصاد العالمي يتغير اليوم بسبب التكنولوجيا أي تحديدا الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية. هذا يؤثر على أسواق العمل أي على دور الانسان في الانتاج. اليوم أكثر من أي وقت سابق تتداخل العلوم بعضها ببعض. لا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة وعن القانون كما عن علوم الاجتماع والتكنولوجيا، أي يجب السير مستقبلا عكس ما حصل في العقود الطويلة الأخيرة. في منتصف القرن الماض كانت العلوم موصولة أو مدمجة بعضها ببعض، أي الاقتصاد السياسي مثلا فتم فصلهما الى علوم سياسية وعلوم اقتصادية. كذلك الأمر بالنسبة للعلوم الاقتصادية وعلم ادارة الأعمال. يجب العودة الى الدمج لأن الفصل لم يعط النتائج المتوخاة، كما أن هنالك حاجة لكل علم للاستفادة من الآخر.

لم تعط العلوم كما درست نتائج فضلى بالرغم من انفتاح الأسواق وانتشار العولمة. كانت النتائج زيادة في الفقر والبطالة وتوسع في فجوات الدخل والثروة والهجرة غير الشرعية كما توترا كبيرا في العلاقات الدولية أنتج وصول متطرفين الى الحكم ليس فقط في أميركا وانما في دول عدة والطريق ما زالت في بدايتها. هل يمكن العودة الى الحرب الباردة مع زيادة حدة حربي غزة وأوكرانيا؟ ممكن لكن مع وصول ترامب الى الحكم أصبح هذا الخطر أقل احتمالا أقله الآن. يمكن القول أن الولايات المتحدة وروسيا لم تستطيعا حتى اليوم اقامة علاقات جيدة دائمة سليمة منتجة حتى قبل حرب أوكرانيا. هنالك تقصير من الجانبين يعود الى الأطماع كما الى اعتماد مفاهيم مختلفة في السياسة والاقتصاد وحتى التنمية. لا بد للرئيسين ترامب وبوتين من بناء علاقات جديدة مبنية على المنطق والحق والحوار كما المساواة.

في هذه الظروف الصعبة نرى أحيانا أن أفكارا خلاقة جديدة تأتي من دول صغيرة لا تؤثر على الاقتصاد الدولي انما تنور الحوار والأفكار. نتكلم هنا عن اليونان التي ادخلت يوم سادس الى أسبوع العمل أي عكس ما يفعل العالم بأسره. لمواجهة واقع انخفاض عدد السكان وبالتالي اليد العاملة الوطنية كما بسبب ارتفاع عدد المتقاعدين، قررت الحكومة الحالية السماح لمن يرغب من الشركات بزيادة أيام العمل الأسبوعية طوعا من 5 الى 6 أيام. قررت اليونان مواجهة الواقع السكاني الأكيد والخطير كما يلي:

أولا: استعمال كل أنواع التكنولوجيا الى أقصى الحدود للتعويض عن النقص الانساني في أسواق العمل. هذا يرفع الانتاجية خاصة على المدى القصير.

ثانيا: رفع الأجور والمنافع لجذب كل من يستطيع ويريد العمل. هذا يؤثر ايجابا على عدد الراغبين في الدخول أو العودة الى أسواق العمل. تكمن المشكلة هنا في تأثير هذه السياسة على التضخم وهذا ما تحاول الدول تجنبه.

ثالثا: الطلب من الموظفين والعمال العمل طوعا أكثر مع تعويضات إضافية طبعا. ماذا يفضل العامل دخل معتدل مع أوقات عمل معتدلة أم دخل أعلى مع أوقات عمل أكثر؟ الجواب يعتمد على العامل وأوضاعه كما على أوضاع البلاد.

رابعا: استقبال المهاجرين بحيث يرتفع عرض العمل وتحل مشكلة المؤسسات والشركات. على مواطني الدول المتقدمة أن يختاروا عمليا بين العمل أكثر أو استقبال المهاجرين المناسبين. العمل أكثر يعني تأخير سن التقاعد أو العمل اسبوعيا ساعات وأيام أكثر أو تخفيض استهلاك الأسر والمؤسسات بحيث يكتفون بدخلهم الحالي.