يدخل الربيع العربي، في مطلع عامه الخامس، زمن التسويات للنزاعات الإقليمية، أبرزها في سوريا واليمن وليبيا. حركة منطلقة وبركة معلّقة، وما بين الاثنتين كلمة الفصل للميدان لا لطاولة المفاوضات، خصوصاً أن المقايضة بين الأزمات ليست متاحة. فلكل أزمة ظروفها ومصالح أطرافها، المستور منها والمعروف.
في ليبيا مشروع اعادة بناء الدولة وربطها بالمجتمع متعدد الانتماءات في اطار نظام سياسي فاعل، من الصعب ان يرى النور على طاولة المفاوضات وحدها، بعد اربعة عقود من جماهيرية بلا جمهور و «كتاب اخضر» قضى على الاخضر وابقى اليابس في اكثر دول المنطقة ثروات وامكانات. استقرار ليبيا بات اليوم حاجة دولية بقدر ما هو حاجة ليبية، بعد ازمة اللاجئين التي اربكت دول الاتحاد الاوروبي. اليمن حالة اخرى من النزاع القديم ـ الجديد والمتجدّد مع «عاصفة الحزم» التي اعطت انقسامات البلاد، القبلية والمذهبية والسياسية والمناطقية، أبعاداً اقليمية ودولية غير مسبوقة. وهذا يعني أن لا حل بالإلغاء، بينما التسوية المقبولة لا تزال بعيدة المنال على رغم الاهتمام الدولي، لا سيما بعد قطع العلاقات الديبلوماسية بين الرياض وطهران.
سوريا ساحة مفتوحة لنزاعات المنطقة والعالم. جوائز كبرى وصغرى وأخرى ترضية تنتظر المتنازعين، فلا مصلحة لأي طرف في أن ينتهي النزاع العسكري والسياسي في وقت قريب. كما انه يصعب فصل حلقات النزاع المتداخلة التي تبدأ بالداخل السوري، مدناً وأريافاً، لتصل الى جنيف وموسكو وفيينا ونيويورك، ولكل من هذه المحطات أحياء وأرياف. قرار مجلس الامن الأخير 2254 خير دليل على ان للنزاع صلة. القرار الدولي رحّل المسائل الاكثر خلافية المرتبطة بالنظام ورأسه والمعارضة ورؤوسها، الا انه وضع خريطة طريق لادارة النزاع ولايجاد حل سياسي، مع التأكيد على ضوابط عادة ما تُشير اليها القرارات الدولية في اي نزاع مسلح. مواقف الدول الكبرى لا تزال على حالها وعلى حدّتها: الدول المناوئة للنظام، وفي مقدمها فرنسا، والمؤيدة، روسيا تحديدا. وحدة سوريا ثبتها القرار الدولي وكذلك محاربة الارهاب، وسمّى بعض التنظيمات الارهابية بالاسم، كما أكد على مبادئ عامة لاغاثة المدنيين المنكوبين جراء العمليات العسكرية. النزاع في سوريا يخص، في المرحلة الحاضرة، اطراف الخارج اكثر من الداخل، بينما الحلّ السياسي المنشود لا يتم الا مع اصحاب الشأن المحليين.
الشرق الاوسط المستجدّ (وهو غير الجديد) بات ارض نزاع مدوّل، الاكثر احتداما وأهمية منذ انتهاء الحرب الباردة، ولا يُقارَن بالأزمات المحدودة في اوكرانيا وجورجيا في السنوات الاخيرة والتي تم تطويقها. نزاعات اوروبا الشرقية وجنوب شرق أسيا وسواها هي مزيج من نزاعات تتحكّم بها موازين القوى بين الدول في ابعادها القومية وركيزتها الدولة الوطنية، ومنها دول نووية. اما نزاعات الشرق الاوسط فيطغى عليها الطابع الديني والمذهبي والمنحى الالغائي داخل الدول وفيما بينها. الازمة السورية تعكس أوجه النزاع بكل مكوناته، القديم والجديد. وهي جاءت في آخر سلسلة تحولات الربيع العربي وبعد حرب العراق، تبعتها ازمة اوكرانيا والفلتان الداعشي. هذا اضافة الى التدّخل العسكري الروسي، وقبله الايراني والتركي، ليجعل من سوريا ساحة لنزاعات غير مألوفة في نظام عالمي تتجاذبه موازين قوى غير متكافئة وسياسات مبعثرة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. تكفي الاشارة الى التعارض الكبير في السياسة الاميركية في العراق وسوريا منذ 2003 الى اليوم، والى القرار الروسي في المواجهة العسكرية في سوريا. لواشنطن مصلحة في احتواء الازمة السورية ولروسيا مصلحة بأن يأتي الحلّ برعايتها. وللسعودية وتركيا وايران هواجس وأولويات في الاتجاهات كافة، اقليميا ودوليا. وفي هذا الصراع المحتدم يغيب العرب والنظام الاقليمي العربي، على رغم محاولات متأخرة لتنشيطه بدعم تركي قد يعطّله التقارب المصلحي الاميركي ـ الروسي غير المعلن.
المسألة بين حدّين: احتدام الصراع الى ان تستقر التوازنات الدولية والاقليمية، او يطغى همّ الاستقرار على الجوانب الأخرى من النزاعات الدائرة، فإلى تموضع جديد بأقل الخسائر الممكنة. من هنا السؤال: هل تكون نزاعات المنطقة، لا سيما النزاع السوري، حافزا لبروز ملامح نظام عالمي جديد، اكثر ثباتا من الحالة التي نشأت منذ انتهاء الحرب الباردة؟ أم ان المطلوب الاستقرار الممكن بالتي هي أحسن (أو اسوأ) في منطقة خالية من الارهاب، سلاح «الدمار الشامل» في هذه المرحلة، فتسقط دول الدين، كما سقطت قبلها دول الدنيا. والمشترك بين الحالتين الضحايا من الشعوب المحاصرة.