يحفل كل يوم جديد بالمزيد من المصائب الإقتصادية والإجتماعية على اللبنانيين الرازحين تحت أزمة حياتية متعاظمة غير مكترثين بأهل السلطة وصراعهم السياسي التحاصصي الذي أدى بأهل البلد الى ما هم عليه اليوم.
أنظار اللبنانيين تتجه نحو مدخراتهم المحتجزة في البنوك، الغلاء المتوحش في الأسعار نتيجة انفلات سعر الدولار من عقاله من دون خطة ثابتة للمعالجة من قبل متحاصصي السلطة، كيفية تمرير يومياتهم ماليا في ظل ترتيب مؤسف للأولويات، الفقر المتوسع في شرائحهم الاجتماعية وسط نزيف للطبقة الوسطة وتوجه نسب متعاظمة نحو ما يسمى بـ«الفقر المدقع» وهو ما يعني ببساطة عدم قدرتهم على تلبية السعرات الحرارية لأجسادهم المضمحلة نتيجة العوز المادي!
وليست أزمة الكهرباء الحالية سوى مثال جديد على كل تلك المشاكل في ظل مخاوف من عتمة كهربائية كبرى مقبلة على الجميع بعد أشهر! ولعل المثال الأكثر رمزية على هذا الخطر الإجتماعي يتمثل في لجوء كثير من اللبنانيين الى أمر لم يألفوه حتى في ظل الحرب الأهلية، وهو مقايضة أملاك لهم ومقتنيات تاريخية بحاجيات أساسية، لكن مؤقتة، تقيهم الجوع! وظهرت في الفترة الأخيرة ظاهرة «المقايضة» لتلبية مواد أولية غذائية مثل الشراب وحليب الأطفال والطحين والرز.. وحتى الخبز!
ولعل وسائل التواصل الإجتماعي والإعلام شكلا نافذة على هذا الصعيد علما أن المؤشرات الكارثية تؤدي الى خلاصة مفادها أن المرحلة المقبلة ستكون أشد وقعاً في أزمة حياتية لم تبلغ ذروتها.
«لبنان يقايض»
في الاسابيع الاخيرة، انخرط لبنانيون كثر وغيرهم في هذه الظاهرة التي اتخذت منصة لها صفحة على فايسبوك تحت عنوان «لبنان يقايض» لم يبلغ عمرها اكثر من نيف وشهر وجذبت آلاف العائلات المعوزة وغيرها ممن يريدون المقايضة تجنبا لسعر صرف الدولار إزاء الليرة اللبنانية.
هناك، في هذا العالم الذي تحول من افتراضي الى واقعي، يجهد كثيرون لمقايضة صعبة بين أمور مزمنة لديهم لقاء الطعام.
وقد أنشأ الصفحة التي باتت منبراً لطالبي المقايضة وحتى لمن يود تقديم المساعدات من دون مقابل، الناشط اللبناني حسن حسنا الذي يقول لـ«اللواء» إن «لبنان يقايض هو عبارة عن تكافل في ما بين الأعضاء لتمرير المرحلة الحالية». «لقد بدأت الفكرة صدفة مع وصولي الى لبنان العام الماضي من كندا، وتزامن ذلك مع بدء الأزمة المصرفية ومن ثم اندلاع الحراك والثورة، ومع مرور الوقت بدأت الأزمة الاجتماعية تأخذ مداها».
حسنا، الناشط في الحقل الاجتماعي والانساني والذي سبق وخبر مبدأ المقايضة في أكثر من بلد كأفغانستان مثلا، يوضح أن نشاطه استُهل مع اندلاع الحرائق في جبل لبنان قبل قليل من 17 تشرين، فنشط في أعمال المساعدة وتقديم الغذاء وحتى تأمين الشقق السكنية لمن احترقت منازلهم. وفي أوائل كانون الاول الماضي «بدأنا فعليا نشاطنا الذي تزامن مع فترة الأعياد وتلقينا مساعدات من الداخل كما من الخليج وأوروبا».
قبل أسابيع، ومع الإنحدار الهائل في المستوى المعيشي، «بدأنا في مبدأ المقايضة وأنشانا منصة على فايسبوك، وشعارنا ان على الناس إبقاء رأسها مرفوعا عندما تقايض».
والصفحة هنا هي عبارة عن حلقة وصل بين الناس. هي قد تحصل بين طرفين أو بين أطراف متعددة، على أن يتواصل عارضوها مع مقابليهم بوسائلهم الخاصة بعد التعرف على حاجياتهم عبر هذه الصفحة.
يقول حسنا: نحن لا نتدخل إلا عند الضرورة ونساعد في تأمين اللقاء، فإذا طلبت إحداهن من طرابلس علب حليب مقابل ثياب تحتفظ بها، وتجاوبت معها أخرى من الجنوب، يمكن لنا تأمين التواصل لوجستيا، كما يمكننا التدخل في حال لم يلق عرض معيّن التفاعل المطلوب.
ولعل نورا (إسم مستعار) التي تعمل في مجال الخياطة تعد مثالا صارخا على هذا الأمر. فهي تقايض مقتنى لها يفيدها في عملها في مقابل الطعام، ورغم أن الفاقة دفعتها الى هذا الأمر، لها الحق في عدم الخجل الذي يُفضل على اللجوء الى صاحب نفوذ أو سياسي او صاب جمعية، والطلب منه المساعدة من دون مقابل.
نظام عالمي للتجارة
وتؤكد الصفحة أنها لا تتلقى عينات مالية ولا يود فريق العمل الولوج في أي «فساد إجتماعي»، ويوضح حسنا أن المقايضة تعد «أسلوبا تجاريا موجودا منذ ستة آلاف سنة وهو سابق للمال وللنقد وللذهب». يضيف «نركز على الحالة الإنسانية ونتلقى طلبات كثيرة لحاجيات رئيسية».
وتتنوع هذه الحاجيات بدءاً بالحليب والثياب والحفاضات والزيت والحمص والعدس ومعلّبات متنوعة.. مروراً بالملبوسات وأغراض الأولاد وألعابهم.. وصولاً الى الكهربائيات والمفروشات وأدوات المطبخ.. وحتى الدواء.
على أن الأمر غير مقتصر على الحالات الاجتماعية الصعبة، بل يشمل حالات كثيرة ترغب في الموضوع في ظل الشح المالي وعدم الرغبة بالصرف المادي، «وتلقينا على سبيل المثال طلبا من زوجة مدير عام أحد المصارف التي انخرطت في هذا الشأن»، يقول حسنا.
حصلت صفحة المشروع على إقبال كبير بلغ نحو 18 ألف منتسب خلال شهر، مع زوار يوميين بين خمسة وستة آلاف زائر، حتى أن العروض والتعليقات على الصفحة بلغت 60 ألفاً.
وردا على سؤال حول مستقبل مثل هذا المشروع في لبنان؟ فإن حسنا لا يعلم يقيناً الى متى سيستمر به، لكنه يؤكد أنه «مشروع لتكافل كبير وطويل الأمد، ونريد تعزيزه مستقبلاً بأفكار أكثر إبداعا وسنتوجه الى دول الجوار والمغتربين لتوسيع هذا الامر، علما أنني بصدد تسجيل المشروع لكي يصبح جمعية وصولا الى ما هو أكبر والذي سيتخذ عنوان المقايضة العقارية».
والحال أن واقع اللبنانيين هو ما دفعهم الى طرق باب المقايضة التي لا يريدها البعض ويعتبرها مجحفة، إلا أنه يفضلها على طلب المساعدة علناً واستدرار الشفقة. ورغم غرابة الموضوع وحداثته بالنسبة الى كثيرين، فإنها وسيلة للبنانيين لتمرير مرحلة صعبة ستطول.