يجتمع في باريس رؤساء وممثلو 190 دولة للبحث الجدي المتأخر في خطوات تفادي ازدياد معدلات الحرارة المناخية الى درجتين حتى سنة 2030، استناداً الى رئيس قسم الاقتصاد في وكالة الطاقة الدولية IEA التي مركزها باريس والتي تأسست عام 1974 لتشجيع انتاج مصادر الطاقة البديلة من النفط. لقد باءت جهود الوكالة بالفشل حتى تاريخه والبرهان ان رئيس الاقتصاديين فيها يؤكد ان باب حصر ارتفاع الحرارة الكونية بدرجتين مئويتين سيقفل بعد سنة 2017، ومن ثم تتعاظم الكوارث البيئية التي قد تؤدي بعد سنة 2030 الى ارتفاع مستويات مياه البحار ما بين ثلاثة وخمسة أمتار وهنالك مدن كبيرة ستواجه اجزاء منها الغرق تحت هذه المياه وكذلك جزر باكملها، وتمدد المياه المالحة سيتآكل القدرة على انتاج المحاصيل الزراعية.
نحن في لبنان في حال غيبوبة مما يجري عالمياً، فقد اصابنا التخدر من العجز عن التصدي لازمة النفايات، فكيف لنا ان نفكر في ازمة الاحتباس الحراري ونتائجها الكارثية؟
كان رئيس وزرائنا ينوي الانضمام الى مؤتمر باريس وعسى ان يفعل بعد اعتكافه عن الاشتراك في افتتاح القمة لاهتمامه المشكور بتحرير الجنود اللبنانيين الذين خطفتهم “جبهة النصرة” وقيدت حريتهم14 شهرًا عانى خلالها افراد عائلاتهم الامرين وهم ينتظرون الفرج، ولا يزال هنالك تسعة جنود محتجزين لدى “داعش” الاقسى في المعاملة والاصعب في مجال تحقيق اتفاق على اطلاقهم.
الاحتباس الحراري ناتج من انبعاث ثاني أوكسيد الكربون في الفضاء حيث تستقر كميات الكاربون مئات السنين وهذه بدورها تختزن الحرارة التي ترتفع تدريجاً في مختلف بقاع الأرض، وتؤدي الى كوارث الفيضانات والنقص في امكانات الانتاج الزراعي لكفاية الحاجات.
سكان الارض يواجهون هذه النتائج اذا استمرت مستويات تلويث الجو والمناخ نتيجة استمرار وسائل التصنيع والانتقال والسير على ما هي، ومعلوم ان بيجينغ هي عاصمة أكبر بلد ملوث في العالم الصين، تليها الولايات المتحدة باقتصادها الضخم الذي يستند الى وسائل انتاج وعادات استهلاك تسهم الى حد بعيد في الازمة العالمية التي تواجه الجميع حاليًا.
لقد وضعت الاقتصادية والكاتبة المميزة الكندية نعومي كلاين Naomi Klein كتابًا من 532 صفحة ما عدا المصادر المدرجة في 34 صفحة عنوانه “هذا يغير كل شيء: الرأسمالية مقابل الطقس” This Changes Everything: Capitalism Vs The Climate.
يستحق هذا الكتاب قراءة معمقة، وبالطبع الرؤساء والسياسيون، وكبار رؤساء المؤسسات الصناعية وشركات النفط وانتاج السيارات لن يقرأوه، ولعل المقربين منهم من اصحاب الكفايات العلمية يبذلون الجهد لقراءة الكتاب من اجل حثهم على انقاذ العالم، نعم العالم، من مخاطر ماثلة أمام قادة الدول.
لقد وضعت هذه المؤلفة كتابًا قبل عشر سنين عنوانه No Logo وأظهرت في ذلك المؤلف ان الرأسماليين يستبيحون المحرمات والمستلزمات البيئية والانسانية في سعيهم الى تحقيق الارباح، وقد وفّرت مثلاً صافعاً عن استهتار الرأسماليين بالبشر حينما أوردت الواقعة الآتية: ان 25 الف عامل في معامل الاحذية الرياضية التي تحمل اسم Nike يحصلون على تعويضات سنوية توازي 25 مليون دولار، ومقابل الـ25 الف عامل وعاملة في الشرق الاقصى، كان لاعب الارتكاز في فريق شيكاغو بولز لكرة السلة Michael Jordan يتقاضى 32 مليون دولار سنوياً، لكي يستعمل الاحذية الرياضية المشار اليها في مباريات فريقه. وللتبسيط نشير الى ان كلفة انتاج الحذاء الرياضي من النوع المذكور كانت توازي سبعة الى تسعة دولارات، مقابل أسعار بيع تتجاوز الـ170 – 200 دولارا للحذاء الواحد.
الفارق بين السعرين كان يتوزع على تكاليف الشحن للاسواق، والتأمين على المنتجات، والدعاية والتمويل والارباح الخ، والنتيجة النهائية كانت تتمثل في زيادة ارباح الشركة، وتفاديها تسديد ضرائب مرتفعة.
لقد اعطينا هذا المثل لنبيّن ان الشركات الصناعية الكبرى تستطيع اعتماد الانتاج في البلدان النامية مقابل تكاليف هزيلة والتمتع عبر شهرتها الناتجة عن افلام الدعاية في المقام الاول بمليارات الدولارات تتوزع على الشركات المساهمة في ايصال الاحذية الرياضية المشهورة الى المخازن المنتشرة عالمياً.
* * *
نعود الى التحدي الذي يواجه المؤتمرين في باريس، إما الاستمرار في وسائل الانتاج الملوثة للبيئة والمناخ وتعديل حياتنا عل شكل مريع ومخيف، وإما تعديل أنظمة الانتاج والاستهلاك بحيث نوفر المنتجات المطلوبة لحياة كريمة غير باذخة. وهذا الامر يعني اقدام رؤساء الدول على تحويل برامجهم الانمائية عن الانساق الدارجة حاليًا ذات الضرر البالغ.
وفي تقديرنا، على رغم كل المؤشرات المخيفة التي توصلت اليها جهود البحاثة في البلدان الصناعية والنامية، ان القادة لن يتجرأوا على تبني سياسات الزامية تؤدي الى ضبط ارتفاع حرارة الارض بدرجتين حتى سنة 2030، هذا اذا اتيح لنا هذا الوقت.
رئيس الاقتصاديين في وكالة الطاقة الدولية يؤكد ان زيادة الدرجتين ستحصل سنة 2017، وان الحيلولة دون هذه النتيجة البالغة الخطر تستوجب التوقف عن زيادة طاقة المحطات الكهربائية التي تعتمد الفحم الحجري، كما من الضروري حصر التنقل بالسيارات الخاصة والتوجه الى وسائل النقل العام، واعتماد الدراجات الهوائية والحدّ من السفر ان أمكن وتكثيف انتاج الطاقة من مصادر الطاقة الشمسية والهوائية ومن اعتماد الغاز الطبيعي الى حد بعيد بدل مشتقات النفط في مختلف مجالات الانتاج الصناعي، وكذلك على المؤتمرين التفكير في رفع اسعار هذه المشتقات سواء بفرض الضرائب أو تقبل ارتفاع أسعار النفط الخام بقوة من اجل خفض استهلاك السيارات الخاصة وتلويثها للبيئة.
الاحصاءات الحيوية عن أسباب التلوث والانحباس الحراري تبين ان الصين والولايات المتحدة، والهند هي البلدان التي تسهم بنسبة 50 في المئة من الاحتباس الحراري وكثافة التلوث، والجهود المبذولة حتى تاريخه لا تفيد عن التوجه النوعي والجذري المطلوب في توفير الطاقة. لكن الامل في خفض سرعة ازدياد الاحتباس الحراري غير مفقود كلياً.
الولايات المتحدة تحولت عن استعمال الفحم الحجري لانتاج الكهرباء وأحلت الغاز الذي بات متوافراً من الغاز الصخري، وقد رفعت نسبة استهلاك الغاز من مجمل مصادر الطاقة من 28 في المئة الى 32 في المئة خلال السنوات الثلاث المنصرمة.
الصين، البلد الاكثر تلويثًا، نتيجة الاعتماد المفرط على الفحم الحجري، والتعجيل في مختلف وسائل التصنيع، وارتفاع عدد السيارات الخاصة 12 مليون سيارة سنوياً، بدأت تسعى لمعالجة الازمة التي تفرض على الصينيين ارسال اولادهم الى المدارس وهم يتحصنون ضد التلوث بالاقنعة الصحية الواقية. وقد انخفض معدل النمو في الصين من 9 – 10 في المئة الى 6,5 – 7 في المئة سنوياً الامر الذي يخفض انبعاثات الصناعة، وربما أهم من كل ذلك انها باشرت انتاج غاز الصخور المتوافر بكميات ضخمة. والصين تعتمد على شركاتها النفطية وعلى شركات نفط أميركية للتعجيل في انتاج الغاز، وربما في بلدنا الصغير، يمكننا الاعتزاز بان شاباً لبنانياً يبلغ من العمر 34 سنة يشرف على الف عامل صيني منخرطين في انتاج الغاز لاستبدال هذه الطاقة بمنتجات النفط.
أخيراً، الهند التي تنمو بسرعة، والتي يبلغ عدد سكانها مع الصين ما يوازي 40-45 في المئة من سكان الارض، توجهت منذ فترة قصيرة نحو الاسراع في اقامة محطات الطاقة النووية بدل مشتقات النفط، كما تعمل على تحويل بعض محطاتها وتعديلها لاعتماد الغاز كلقيم اقل تلويثًا من مشتقات النفط. وتعتمد على استيراد الغاز من قطر وقريباً من أوستراليا.
هل تكفي هذه المبادرات لتخفيف الخوف من المستقبل؟ اننا نشك في ان تتحقق النتيجة ما لم يستفق حكام البلدان التي يتشكل منها عالمنا الى ضرورة التخلي عن قناعات الماضي في شأن مسائل التنمية، وكذلك في شأن مستوجبات كفاية الحياة دون التفريط في الموارد.