IMLebanon

الإرهاب المُعولم والغرب المُحاصَر

ظهرَ مفهوم العولمة لتوصيف ما وصل إليه العالم من الإنفتاح بين الدول، وإلغاء الحدود والحواجز أمام حركة السلع والتبادل التجاري وسهولة انتقال رأس المال من منطقة إلى أخرى. بحيث يبدو العالم كسوق موحّد على المستوى الإقتصادي. كما أنّ موضوع التداخل بين المجتمعات قد فتح المجال للحديث عن حال التثاقف والحوار بين الأفكار والحضارات.

اهتمّ الباحثون بما وفّرته التطورات التكنولوجية وإنشاء القنوات التواصلية من الإمكانات لبلورة ثقافة كونية تلبّي طموحات الإنسان المعاصر وتتساوق مع تحرّر الإنسان من أسر الجغرافيات المحلية. غير أنَّ هناك جانباً آخر يَكْشِف سلبيات العولمة.

لأنَّ المخاطر التي تنشأ في إطار مناطق جغرافية معيّنة سرعان ما تتجاوز حدودها وتتفشّى في العالم. والتداعيات الناجمة من الأزمات التي يمُرُ بها بعضُ الدول، ستكون لها إمتدادات على نطاق واسع بحيث من الصعب بمكان التكهّن بما ستشكله من التهديدات على كلّ الأصعدة. هذا ما يتجلّى في انتشار ظاهرة الإرهاب واستفحال مخاطرها على المستوى العالمي.

الإرهاب بلا حدود

ظاهرة الإرهاب هي جزء من التاريخ البشري، وقد لا تخلو أية مرحلة تأريخية من الجماعات التي قد مارست عمليات الترهيب والعنف لأهداف سياسية أو بدوافع دينية وآيدولوجية، لكنّ الإرهاب لم يصلْ إلى مستوى يتخذ فيه طابعاً عالمياً، إلّا بعد هجمات 11 أيلول واستهداف مبنى وزارة الدفاع الأميركية وبرج التجارة العالمية في نيوريوك، وإعلان أميركا حربها ضدّ الإرهاب، كما صرّح الرئيس الاميركي السابق جورج بوش الإبن بأنّ مَن لم يقف مع أميركا يكون مصنّفاً في صفّ الإرهابيين.

وبدأت أميركا بشنّ حروب إستباقية. وفي إطار حربها المتواصلة ضدّ الإرهاب، قامت باحتلال أفغانستان والعراق. غير أنّ انهيار الدولة العراقية وتقويض المؤسسات الحكومية وظهور الإصطفافات الطائقية قد أعطى مساحة جديدة للمتطرّفين. وساهمت الصراعات الطائفية في تفريخ مجموعات متطرفة.

وبعد اندلاع انتفاضات الشعوب، راهن العالم على ما تتيحه تلك التحوّلات من الفرص لبناء أنظمة جديدة تستجيب لمطالب الجماهير. وبذلك يُسحب البساط من تحت أرجل المنظمات المتطرفة. وتنتهي حال الإحتقان ولا تعود هناك فجوة تفصل بين الشعب والنظام.

لكن بما أنّ هذه الإنتفاضات قد سارت باتجاهات متباينة وشهدت في بعض تجاربها حالات التراجع، وغابت القوى التي كانت وراء قيادة الثورة، ولم تتجاوز التيارات السياسية الخلافات القائمة بينها، للاحتفاظ بما حققته الثورة، كما أنّ الجهات الإقليمية المعيّنة عندما أدركت بأنّ أمواج الثورة قد تصل إليها تصدّت لها في عقر دارها من خلال دعم الأنظمة أو التيارات التي تُمثِل سياستها. ومن هنا إختلطت الأوراق وشاعت الفوضى في دول عربية، وعلى رأسها سوريا وليبيا.

فاستمرار الأزمة السورية وتعقيداتها قد غذّت العنف، إلى أن ظفرت المجموعات المتطرفة بمساحاتٍ واسعة إنطلقت منها بحروب إعلامية والتجهيز لشنّ الهجمات على مناطق أُخرى.

الآن تطال مخاطر هذه المنظمات دولاً غربية، فهجمات باريس الدموية في 13/11/2015 تقدّم دليلاً واضحاً على أنَّ الإرهاب لا يقف عند حدود جغرافيا معيّنة، وأنَّ ما ترومه تلك المجموعات المتطرفة هو توسيع عملياتها، بحيث لا تكون ثمة بقعة من العالم بعيدةً من نشاطاتها الإجرامية. سبق لداعش أن استهدف مناطق متعدّدة في توقيتات متقاربة حيث ضرب الكويت والسعودية وتونس.

كذلك في العملية الأخيرة وضع بيروت وباريس هدفاً. ولم يفصل بين سلسلة التفجيرات التي وقعت بين مدينتين إلّا فترة زمنية قصيرة. وماقصد إليه داعش من تنفيذ هجمات فى قارّتين مختلفتين هو أن يبث مزيداً من الرعب والقلق، وأن يبرهن بأنَّ عملياته لا تنحصر في إطار دولة أو فضاء جغرافي واحد. الآن أصبحت الدول الغربية مقتنعةً بضرورة إعطاء الأولوية لمحاربة «داعش».

وتبنّت فرنسا موقف روسيا فقرّرت تكثيف غاراتها على مواقع داعش في الرقة، وأرسلت حاملة الطائرات إلى شواطئ سوريا. فما اعتبرته أميركا والدول الأوروبية حلماً ديموقراطياً قد حلمته رياح الحراك الجماهيري، وقد تحوّلت إلى كابوس غزا عواصمها، فما شهدناه في باريس من التوتر والقلق وانتشار عناصر الجيش والإجراءات الأمنية المشدّدة والمداهمات، وإعلان حال الطوارئ ومطالبة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أمام مجلس الشيوخ الفرنسي بتعديل بنود الدستور، يضع فرنسا في إطار الدول التي يهدّد فيها الإرهاب السلم الإجتماعي الذي من دونه ستخسر نماذج التعدّدية وحرية الرأي واحترام خصوصية الفرد حاضنتها السياسية والثقافية.

الإرهاب كتحدٍ فكري

يعتقد المراقبون والمحللون بأنَّ المنظمات الإرهابية حتى ولو سيطرت على أجزاء من الدول واستقطعت منها المساحات لإقامة كيان أو ما يُسمى بالإمارة، فهي لا تملك مقوّمات الإستمرارية والديمومة، وذلك لافتقادها إلى دعم جماهيري واسع وعدم إستعداد أية دولة للتعامل مع الإرهابيين رسمياً. وقد تستخدمهم مرحلياً لأهداف وأغراض معينة ولكن لا تغامر بإعلان تعاطفها معهم علنياً.

بيد أنَّ ثمةَ سؤالاً ملحاً لايمكن تجاهله: لماذا تتعاظم مَخاطر الإرهابيين مع أنَّ الحرب ضدّ الإرهاب لم تقفْ منذ 11 أيلول 2001؟ ماهي العوامل التي توفّر مُناخاً مؤاتياً للمتطرفين؟ توجد أسباب متعدّدة وراء نموّ التهديدات الإرهابية ويأتي في مقدمها توظيف دول معيّنة لهذه التنظيمات ضدّ خصومها في الصراعات الإقليمية والدولية.

إضافة إلى استمرار النزاعات في منطقة الشرق الأوسط من دون أن يكون هناك أفق لإيجاد حلول لها. كما أنَّ مسألة الإرهاب لم تُعالَج على المستوى الفكري. صحيحٌ أنّ بيئاتٍ إجتماعية وسياسية مختنقة وتدهور المستوى الإقتصادي لهما دور في نشوء ظاهرة الإرهاب.

لكن لا يصبح الإرهاب تياراً كاسحاً من دون وجود الجذور الفكرية التي تعبّئ رؤوسَ المقتنعين بها بمفاهيم إقصائية وتدميرية»، فإن الإرهاب والعنف هما تصوّر عقلي وإستعداد ذهني قبل أن يكونا سلوكاً وممارسة» على حدِّ قول تركي الحمد (كاتب سعودي)، لذلك يجب أن تكون عملية تحرير الوعي مشروعاً تكاملياً للحرب القائمة ضدّ الإرهاب.