تأجيل المؤجّل سيّد الوقائع صغيرة أم كبيرة، محلية أو اقليمية في هذه المنطقة من العالم. ايران التي تستثمر في تأجيل المؤجل أكثر من سواها، في بلدان المشرق العربي وشبه الجزيرة، استطاعت تأجيل الموعد المقرر لبت الاتفاق النووي النهائي من عدمه، مع مجموعة الدول الست، اقل قليلاً من اسبوعين، لكن الدول الست تتقدمها الولايات المتحدة كانت واضحة بأنّ الموضوع لا يحتمل مزيداً من تسليف الوقت لايران، وهكذا فالمفاوضات ستنتهي في الساعات المقبلة، ايجاباً أو سلباً، وأرجحة الايجابي على السلبي تستمد قوتها من الانعكاسات الخطيرة لفشل هكذا اتفاق، لكن فشله هذا ليس احتمالاً ضئيلاً، بل هو احتمال قائم منذ اتفاق الاطار، وليس بحاجة لأجواء التشاؤم التي راجت في الساعات الماضية، ليزيد هذا الاحتمال او ينقص. قول المفاوضين بأنهم انجزوا ثمانية وتسعين من المسودة يذكرنا، عرضاً، بأقوال مماثلة عشية فشل مفاوضات «الوضع النهائي» بين اسرائيل والفلسطينيين. لكنه تذكير عرضي، يرتبط بسياق انتقلت فيه قضية السلم في الشرق الاوسط من كونها قضية تسوية الصراع العربي الاسرائيلي الى قضية تسوية الملف النووي الايراني، في حين تزدهر فيها اعتراضات من مصادر مختلفة تماماً على أفق الاتفاق النووي الايراني الاميركي، اقله بالخطوط العامة كما ظهرت في اتفاق الاطار، ومنها اعتراضات على اساس الخصومة مع ايران، واعتراضات من داخل، بل من اعلى المنظومة «الثورية الاسلامية» الحاكمة في ايران.
النظام الايراني لا يريد التشبه لا من قريب ولا من بعيد بالمسار الانفتاحي الصيني الاميركي في ايام ريتشارد نيكسون. ليس هذا في المفاوضات مراده. والمرشد علي خامنئي، وان ظل يؤجل كلمته الاخيرة في اصل هذه المفاوضات وفصلها حتى اليوم، فانه لم يكن خطابياً فقط فيما قاله مؤخراً، هو يريد اتفاقاً يضمن لايران احتفاظها بعدة مقاومة الامبريالية في المنطقة، بل يريد عبر الاتفاق حتى يوافق عليه، من الامبريالية الاميركية ان تجيز له ذلك، فتقرن الاتفاق ليس فقط برفع العقوبات المالية والاقتصادية، بل رفع الحظر على استيراد الأسلحة وتبادل الخبرات التكنولوجية العسكرية «ما دون فلك النووي»، اي تريد بكل وضوح ان تطلق يدها اكثر في البلدان العربية التي تتدخل فيها.
والحق انه لا يمكن الاتكال كثيراً على المفاوض الاميركي في هذا الجانب، مع انه ما زال جانباً يحول دون التوقيع النهائي. لكن المشكلة الاساسية لا تزال تكمن في مسألة المراقبة الدولية للمنشآت النووية الايرانية، ولايران ككل، خصوصاً مع الآفاق التكنولوجية لتطور «العمل السري» النووي بعيداً عن متناول المفتشين في السنوات المقبلة (لا يزال بعض بلدياتنا يخمنون بسذاجة ان الاقمار الاصطناعية تلتقط كل دابة تسير على وجه الارض، وكل ما يسير تحتها). ويستتبع ذلك الاشكال حول كيفية اعادة زجر ايران جديا ان هي اخلت ببنود الاتفاق.
هذا من ناحية القضايا التي لا تزال حتى الساعة جوهرية في تفشيلها الاتفاق، وان شكلت اثنين في المئة من ديباجته. لكن هناك ايضاً مشكلة النطاق المعطى للديبلوماسي هنا. الديبلوماسي الايراني يفاوض وتتطلب منه قيادته تحصيل افضل صفقة ممكنة، لكن قيادته ما زالت تحسب ان كانت هي بحاجة للاتفاق من اساسه، ما لم يؤمن لها المن والسلوى من اموال واسلحة نافعة في الامد المنظور، ويعقد المسألة ان هذه القيادة باتت واثقة بأنه في حال فشل الاتفاق فالحرب غير واردة، بل ان الوضع الاقليمي يغريها بالتصلب، لان اميركا تحتاج للتقاطع معها، في العراق او افغانستان، وربما في اماكن اخرى.
اما الديبلوماسي الاميركي، وفي بلد بنظام رئاسي، فهو يعلم انه يفاوض لأجل التوقيع على اتفاق، انه يمثل الطرف السيادي الاميركي بعكس المفاوض الايراني الذي هو بالاحرى وسيط مع الولي الفقيه. لكن الكونغرس الذي افتى برجعة الاتفاق اليه للمعاينة ليس عتبة يمكن تجاوزها بسهولة ان كان الاتفاق يفتح المجال لـ»التسيب الايراني«.
الساعات المقبلة فاصلة، كما يقول الجميع. لكن العالم «لا يحبس أنفاسه» ابداً. يبدو العالم كما لو انه اكتفى باتفاق الاطار، ولا تهمه كثيراً حكاية الاتفاق الحقيقي، الاتفاق النهائي.