يُظهر الحراك السياسي والعسكري الدولي أنّ مواجهة تنظيم «داعش» باتت الشغل الشاغل لعواصم دولية وإقليمية وعربية، ولا مبالغة في القول إنها وضعت العالم أمام خريطة تحالفات جديدة.
لا شك في أنّ نهج الانتقائية الذي اتّبعته الولايات المتحدة الأميركية في تشكيل تحالف دولي لمحاربة «داعش»، أثار تساؤلات كثيرة لدى بعض عواصم القرار في العالم والمنطقة، الأمر الذي دفع قيادات بلدان فاعلة دولياً وإقليمياً الى التشكيك في أهداف التحالف، حتى أنّ البعض ذهب الى مهاجمة الائتلاف الاميركي، فبَدا وكأنّه في موقع دفاع عن تنظيم «الدولة الاسلامية»، على رغم أنّ المعارضين والمؤيدين للائتلاف يرفعون شعار الحرب على الارهاب.
ما هي أسباب هذا الاختلاف في المواقف؟
بالطبع ليس مفهوم الارهاب هو السبب، ولا خلاف على أنّ نشاط «داعش» هو إرهابي بامتياز، لكنّ السبب الرئيس يكمن في تقسيم «الكعكة» بعد القضاء على هذه الظاهرة، اذا ما نجحت طرق محاربتها.
وهذا ما يتجلى في محاولات كلّ الأطراف تصدّر التحالفات لمواجهة ذلك التنظيم. ففي حال نجح الائتلاف الاميركي في القضاء على التنظيمات الارهابية، فإنّ ذلك سيكون بمثابة الضوء الاخضر للإدارة الاميركية في تركيب حكومات تابعة لسياساتها في المنطقة باعتبارها «بطل الحرب».
امّا نقطة الخلاف بين واشنطن والرافضين لائتلافها، فتبقى في توجيه ضربات لمواقع «داعش» داخل الاراضي السورية، لأنّها بذلك تُكرّس مفهوماً جديداً على مسرح السياسة الدولية، وهذا سيمكّنها لاحقاً من استهداف أيّ بلد بلا موافقة السلطة المحلية، كونها ستصبح رأس الحربة في مواجهة الارهاب في العالم. وبالتالي، فإنها تضفي شرعية على نشاطاتها العسكرية المتمثلة بغارات «طائرات بلا طيار»، في دول عدة مثل: باكستان واليمن والصومال ونيجيريا…
إذاً السؤال ليس في آليّات مواجهة الارهاب، بل في مرحلة ما بعد «داعش»، خصوصاً أنّ خطوة كهذه ستفتح المنطقة على احتمالات مختلفة وفي مقدمها تثبيت النفوذ. وهنا يكمن بيت القصيد، إذ إنّ واشنطن تحاول إعادة نفوذها بعدما شعرت أنّ تأثيرها في الشرق الأوسط وشمال افريقيا بات يلفظ أنفاسه الاخيرة.
وبالتالي، فإنّها تحاول بذلك إعطاء جرعة إضافية لنهج القطب الواحد الذي اتّبعته منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي. وليس خَفيّاً أنّ روسيا، ومنذ عودة قيصرها الجديد فلاديمير بوتين للمرة الثانية الى عرش الكرملين عام 2012، تعمل على إعادة حضورها على الخريطة السياسية العالمية.
وعلى رغم عدم تقبّل موسكو مكوّنات الائتلاف الاميركي، إلّا انها كانت حاضرة في مؤتمر باريس أمس، وذلك لتفويت الفرصة على واشنطن في التفرّد بالقرارات من جهة، ولضمان دور حلفائها في المنطقة من جهة ثانية، إذ إنّ موسكو مقتنعة بأنّه من غير الممكن التصدي لخطر «داعش» بلا طهران ودمشق.
لذا، فإنّ تضارب مصالح القطبين الدوليين في مرحلة ما بعد «داعش»، سيضع مهمة المواجهة الدولية للإرهاب على المحك، خصوصاً أنّ خيارات الغرب العسكرية السابقة قي هذا الاطار، أكان في افغانستان أو العراق، قد باءت بالفشل، وأثبتت التجارب أنّ الخيارات العسكرية غير كافية بلا معالجة مسبّبات تمدّد الفكر المتشدد في المنطقة.
أمام هذا المشهد المعقد دولياً، وفي الوقت الذي يحاول العالم إيجاد طرق لمواجهة الارهاب والتصدي للفلتان الأمني والسياسي الحاصل في الشرق الأوسط، يبدو أنّ الأنظمة والحكومات المعنية مباشرة بهذه المواجهة غائبة عن السمع، ما سيؤدي عاجلاً أم آجلاً الى تنامي ظاهرة النعرات الطائفية والمذهبية التي ستأتي بدورها على الاخضر واليابس.