ضمن استراتيجية الأمن الغذائي هبات للمحتاجين
إنه الجوع يطرق الأبواب ويسد منافذ الأمل على الناس ليفتح أمامهم باباً ذليلاً هو باب الإعانات وكراتين الإعاشة السيئة الذكر. ناس يعيشون الفقر بكل خطوطه، يأملون بيد تمتد نحوهم. لكن الخيبات على الموعد واليد الممدودة لا تحمل سوى بضعة أغراض تلتهمها بالبيوت بسرعة. الهبات بحصة تسند خابية لكنها ليست الحل بالطبع؛ وحدهم بعض الرؤيوين استطاعوا بأفكار جريئة تقديم مساعدات حية تغني وتسد جوعاً. دجاج، ماعز، خراف وأرانب هبات من ذهب نصفق لمطلقيها ونتعرف إليها عن قرب.
على قاعدة عنزة ولو طارت يتصرف بعض المسؤولين عندنا ويسدون آذانهم عن صرخات الناس الجائعة متحججين بأن الوضع المالي ممسوك وبأن الشغل مش عيب. يعدوننا بخطط اقتصادية تنتشلنا مما نحن فيه، ويمننوننا بمئات آلاف يوزعونها على الأشد فقراً ويتخانقون حولها. لكن في الجانب المقابل ثمة من يفكر ويخطط لمساعدة الناس، لا عبر إذلالهم بصناديق وصور بل بمنحهم مصدر رزق يعتاشون منه يقي عيالهم شر الجوع والعوز. بعد البذور الزراعية انطلقت فكرة توزيع الدواجن والمواشي على العائلات اللبنانية المحتاجة لتكون النواة التي تؤسس لانتاج منزلي مثمر وتحوّل العنزة قطيعاً والدجاجة سرباً يؤمن للعائلات قوت يومها وغدها.
أرانب جنبلاط
في حركة بارعة تهدف الى إدهاش جمهوره أخرج الساحر من قبعته ارنباً وتركه يسرح سعيداً مع أترابه تحت أنظار وائل أبوفاعور المدهوشة، وفي لوحة سابقة نشرالدجاج في الساحات وجعله يصفق بجناحيه داخل اقفاص ملونة ويتنقل فرحاً بين الأسر في راشيا والبقاع الغربي. إنه الوزير وليد جنبلاط السباق دائماً في الأفكار الرائدة، يستشف المستقبل قبل سواه ويرى ما ستؤول أليه الأمور. قبل الكل أدرك ضرورة الأمن الغذائي وأهمية تأمينه في “مناطقه” بالسبل المتوافرة. في هذه الأيام التي تنذر بالجوع الآتي، لم يشأ أن يتقيد بالهبات المعلبة الجاهزة ولم يخش أن يلعب دور الساحر فكان الأول في توزيع الأرانب والدجاج الحي على العائلات المحتاجة في منطقة البقاع الغربي وراشيا. ففي اوائل شهر ايار الحالي قام مكتب التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الحزب التقدمي الإشتراكي بتوزيع مئات الأرانب على عدد من العائلات المحتاجة في قرى هذه المنطقة من أجل تعزيز الأمن الغذائي لأصحاب الدخل المحدود والأشخاص الذين توقفت أعمالهم نتيجة الأزمات الحالية.
ورغم غرابة الخطوة لا يمكن القول إلا أنها خطوة موفقة وذكية، فتربية الأرانب تُعتبر أمراً سهلاً نسبياً ويستطيع الفرد تربية هذه الحيوانات في المنزل أو قربه من دون التسبُب في الإزعاج لجيرانه، إذ تمتاز الأرانب بأنها سريعة التكاثر،عديمة الرائحة وهادئة لا تصدر اصواتاً مزعجة أو روائح كريهة، وهي حيوانات سهلة التوجيه والانقياد ويمكن الاستفادة من لحومها وحتى من فضلاتها كاسمدة للحدائق والجنائن ولا تحتاج لأكثر من قفص متوسط وحرارة مناسبة. ولمتابعة الخطوة وتفعيلها تم توزيع فيديو توجيهي وإرشادات حول كيفية تربية الأرانب والعناية بها وشرح أهمية هذه التربية لتأمين لحوم صحية وغنية بالمواد الغذائية الأساسية وبنسبة دهون منخفضة. وكان قد سبق الأرانب توزيع أكثر من 2500 طير من الدجاج على المزارعين والعائلات في قرى منطقة راشيا والبقاع الغربي بتوجيه ودعم من رئيس الحزب وليد جنبلاط ومتابعة من النائب وائل أبوفاعور لتعزيز الأمن الغذائي للمنطقة وعائلاتها. والخطوة لم تبق بعيدة عن الأضواء فقد تناقلتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل وسلطت الضوء عليها بتهكم حيناً وبثناء أحياناً.
عنزة استراتيجية
لأن العمل الجدي يبدأ حيث ينتهي التصوير، فإن بعض الجادين يعملون بحكمة وصمت بعيداً عن صخب الإعلام وكاميراته لتأمين الأمن الغذائي للفئات الأكثر فقراً ولا سيما في الأرياف البعيدة التي تناستها الدولة في استراتيجية مدروسة بعيدة عن الفولكلور المعهود للهبات تهدف الى تحصين الناس الأكثر حاجة.
منذ خمس سنوات أطلقت الجمعية اللبنانية للدراسات والتدريب مشروعها الهادف الى دعم الأسر الفقيرة وتشجيعها على العمل في الانتاج الحيواني لتحسين دخلها وتأمين قوتها اليومي من بيتها. واليوم ومع تفاقم الأزمة المعيشية التي تلقي بأعبائها الموجعة على العائلات الفقيرة تمّ تفعيل هذا المشروع أكثر ليطاول 80 عائلة في منطقة بعلبك الهرمل من خلال توزيع عنزة وصغارها على كل منها مع إعطاء التدريب الملائم على كيفية رعاية العنزات وتأمين متابعة بيطرية بشكل دوري للتأكد من سلامة سير العملية.
يؤكد د. رامي اللقيس مؤسس الجمعية اللبنانية للدراسات والتدريب انه وبناء على خبرة سابقة في متابعة هذا المشروع فإن العنزة وصغارها تتحول في خلال سنتين أو ثلاث الى قطيع صغير يحسن مستوى الدخل بشكل ملحوظ ويغطي الأمن الغذائي للعائلة ويعزز فكرة دعم الإنتاج المنزلي بدل الاستهلاك عبر ما يعطيه القطيع من منتجات مثل الحليب ومشتقاته. وفي هذا الظرف الذي يجبر الناس على البقاء في منازلهم يكتسب المشروع أهمية بالغة لأنه يحوّل المنزل الى وحدة انتاجية فنصيب بذلك أكثر من هدف واحد: اولاً ندعم فكرة الاقتصاد الريفي المنتج بدل فكرة الاقتصاد الريعي السائد حالياً الذي يعتمد على المساعدات والإعانات، ثانياً نزيد من كمية المنتجات المحلية ونساهم بذلك بالتخفيف من الاستيراد في المستقبل وثالثاً نخفف من أعباء تكلفة المشاريع الانتاجية، فالعائلة التي تعمل من بيتها وأرضها ليست بحاجة الى تكاليف تشغيلية باهظة ليأتي مشروعها بثماره.
نسأل مؤسس الجمعية وصاحب الأفكار الرائدة من يستهدف هذا المشروع ووفق أية معايير تم اختيار العائلات؟ فيؤكد لنا ان المشروع في الأساس مخصص للعائلات التي ترأسها نساء إما بسبب وفاة الزوج او غيابه او بسبب المرض او البطالة. والمعيار الأول هو فقر العائلة وحاجتها الى الدعم، اما الثاني فهو قدرتها على إدارة هذا المشروع والثالث هو توفر الظروف المناسبة لتربية الحيوانات مثل المكان الآمن وعدم إزعاج المحيط بالرائحة أو غيرها. ونحرص على التأكد من توافر هذه الشروط عبر زياراتنا للعوائل.
مشروع كهذا لا شك دونه صعوبات مادية ومعنوية، فكيف تغلبتم عليها ؟
الصعوبة الأكبر يقول د. اللقيس تمثلت في كسر الحواجز النفسية، فالناس رغم فقرها متمسكة بعقلية الاستهلاك تريد منتجات جاهزة، لم تتقبل بسرعة فكرة الانتاج المنزلي لكن بفضل التسويق المدروس للفكرة والدعم النفسي استطعنا تشجيع الناس على التقدم بطلباتهم للانضمام الى المشروع ونشهد اليوم تزايداً ملحوظاً في عدد الطلبات لا سيما في فترة الحجر هذه.
أم وعنزة وأربع بنات
منذ ثلاث سنوات كانت إحدى النساء في المنطقة تعاني لتربي وحيدة أربع بنات في ظل ظروف معيشية قاسية جداً. حينها قدمنا لها عنزة وصغيريها كمساعدة لتؤمن شيئاً من قوت بناتها. ولم تكن تملك سوى “حاكورة” صغيرة أمام البيت، حتى ثمن العلف لم يكن متوافراً معها فكانت تطعم العنزات ما تيسر من بقايا طعام منزلي او تتركها ترعى في الخارج. اليوم بات عندها قطيع يضم 14 عنزة تربي بناتها من مردوده وتعيش مستورة لا تحتاج لأحد. حتى العلف بات بإمكانها شراءه لتأمين تغذية صحيحة للقطيع.
هذا نموذج ساطع عن استراتيجيتنا التي تهدف الى جعل الناس قادرة على إطعام نفسها وعلى توليد قدرات إضافية لديها عبر الاستفادة من كل الموارد غير المستخدمة عندها، وذلك بغية تأمين الحد الأدنى من الأمن الغذائي لها.
أليس هذا دور الدولة والبلديات نسأل؟ أليس من واجب الدولة تشجيع الثروة الحيوانية والإنتاج الفردي لا سيما في المناطق المهمشة ؟ البلديات وضعها المالي صعب وتمويلها ضعيف ولا قدرة حقيقية لها على القيام بمبادرات منتجة يقول اللقيس. اما بالنسبة للسياسيين فحساباتنا مختلفة عن حساباتهم فنحن نعمل للانتقال من ثقافة الريع الى ثقافة الانتاج. مشاريعنا كلها ممولة من جهات مانحة، شفافيتنا في التعامل وجهوزيتنا تستقطب تمويلاً من مؤسسات مانحة نستفيد بدورنا من دعمها وتجاربها وخبراتها المهنية والتنموية لنفتح فرص عمل لمئات العائلات. لقد التزمنا بناسنا وبتطوير قدراتهم وحياتهم بعيداً عن الفولكلور الإعلامي ودورنا ينتهي حين لا تعود الناس تعتمد علينا.
معزايات البلدية
في زمن شُل فيه دور البلديات وتوقف تمويلها لتصير هياكل عظمية لا لحم عليها ولا دهن تعمل من حلاوة الروح، تأتي مبادرة بلدية فتقا الكسروانية لتشكل نقطة مضيئة ومميزة في العمل التنموي ومثالاً يفتح الباب لباقي البلديات للاحتذاء به. ففي العرين الكسرواني الذي شهد معارك انتخابية طاحنة تفتقت نتائجها عن كوكتيل حزبي متنوع، لم تجد بلدة فتقا الصغيرة سوى رئيس بلديتها ليدعم أسرها المحتاجة. فلا الانتخابات أغنتها عن جوع ولا وعود الثروة أسمنتها. الريس فهد الشدياق الذي يعرف أولاد البلدة بالإسم ويعرف ما تخفيه أوضاع أسرها من ألم وضيق وجد أنه لا بد من تحرّك ما؛ لكن العين بصيرة واليد قصيرة فكيف السبيل للمساعدة؟ فكرة مختلفة عما هو شائع في الإعانات والإعاشات خطرت بباله. لم لا نوزّع دواجن ومواشي على الأسر: دجاج، خراف وماعز تعطي الأسر اكتفاءً ذاتياً. تخمرت الفكرة ونضجت بعد جولة على المنطقة لاستكشاف قدرات الناس فيها على تربية الحيوانات في “جنيناتهم” وقرب بيوتهم. وبمبادرة من الخيّرين تم التمويل، صندوق البلدية لم ينفق شيئاً من قروشه القليلة، فأهل الخير تولوا مهمة التمويل فيما تولت البلدية الإشراف والتوزيع.
هل تم التنسيق مع بلديات أخرى أو مع اتحاد بلديات كسروان، نسأل؟ بحرقة يجيب الريس فهد أن الاتحاد بالكاد يجتمع واجتماعاته لا تخرج بأية مقررات تعود بالفائدة على أبناء المنطقة، هو يعيش أوقاتاً صعبة وبلدياته بالكاد تستطيع أن تدفع لموظفيها. لذا كان لا بد من التحرك خارج إطاره.
ردة فعل الناس على هذه الهبة المختلفة كانت مذهلة، فالطلبات فاقت التوقعات وشملت أكثر من سبعين عائلة حاولنا تلبيتها كلها يؤكد الريس. بعضهم اراد صيصاناً يربيها على بلكون شقته، لكن الأمر لم يكن ممكناً فالموافقة أتت فقط لمن يملك مساحة قرب البيت أو القدرة على استئجار أرض صغيرة لتربية الماشية. لم نفرق بين أهالي فتقا والقاطنين فيها فالحاجة وحدها كانت المعيار. لقد استطعنا من خلال هذه الخطوة أن نمنح الأسر ما يؤمن لهم على الأقل فطورهم الصباحي من بيض وحليب ولبن ويعطيهم أملاً بلقمة تكفيهم شر العوز.
نتساءل بدهشة حقيقية كيف للشعب اللبناني الذي أدمن الاستهلاك واعتاد الحصول على احتياجاته بسهولة أن يعود الى تربية الدواجن والمواشي. من أين له هذا التواضع؟ بل من اين له المعرفة في التعاطي مع تربية الحيوانات؟ الجواب بسيط: لا أمرّ من المرّ إلا الحاجة إليه. فالناس بحاجة في أيام القحط هذه الى طاقة أمل تؤنسهم وتسد جوعهم ولو وقفت ببابها عنزة او دجاجة. لذا لم يكن مستغرباً تهافت الناس على اقتناء هذه الحيوانات، والعناية بها، فأبناء القرى وإن تفرنجوا أو سكنوا بيروت لم ينسوا بعد إرث الآباء الذين عملوا في الأرض والزرع وتربية الحيوانات وما زالوا يحتفظون ببقايا مهارات سمعوا عنها أو رأوا آباءهم يقومون بها. ولكن ماذا عن النساء في القرى هل تقبلن كما في الأطراف فكرة الاهتمام بالمواشي ؟ نتوجه بسؤالنا الى رئيس البلدية فيضحك قائلاً لنترك النساء الى اهتماماتهن فلا شك يفضلن غوتشي وبرادا على المعزاية والقرقة…ورغم تحفظنا على هذا الرأي، يصعب علينا تخيل بعضهن يحلبن العنزات وينظفن القن خلف الدجاجات…
رغم طرافة الصورة يبدو الواقع سوداوياً يلخصه الريس فهد الشدياق بقوله: دور البلدية أن تجبي من الناس لتؤمن لهم الإنماء ولكن في الظروف الحاضرة علينا المحافظة على الناس أولاً حتى نتمكن من التفكير بالإنماء يوماً ما نرجو أن يكون قريباً.
بعد الدجاج والماعز والأرانب دعونا أيها السادة المسؤولون نقترح عليكم بعض الأفكار: لم لا تغرقوننا بالعسل وتقدمون لنا قفران نحل تلهينا عقصاتها عن عقصاتكم القاتلة، وتعيدنا حلاوة عسلها الى حلاوة أيام لم تكونوا فيها؟ لم لا تدعونا نحلم بالسومون والكافيار وتقدمون لنا بيوض سمك نربيها في قطعة من بحرنا نقتطعها من الأملاك البحرية المنهوبة؟ بل لم لا تقدمون لنا تماسيح تنسينا جلودها ما أصبحنا عليه؟
صودرت الدجاجات ووُزّعت
إذا كان الدجاج الحي قد أمن قوتاً مستداماً للاسر الفقيرة، فالدجاج المذبوح شكل وجبة دسمة لم يكن البعض ليحلم بها لولا تدخل بلدية المنصورية، المكلس الديشونية. فبعد أن قامت وزارة الاقتصاد بحجز كمية من الدجاج المذبوح من أحد المعامل المختصة بذبح الدواجن وبيعها بحجة المخالفة في الاسعار ورفعها أكثر من الحد المسموح، قامت بتسليمها الى البلدية الواقع المعمل ضمن نطاقها للتصرف بها وفق صلاحياتها. وجدت بلدية المنصورية في الأمر فرصة سانحة لتقديم المساعدة الى عدد كبير من الجمعيات العاملة على أرضها، فقامت بتوزيع الدجاج المصادر على المياتم، والجمعيات ومآوي العجزة المتعددة في البلدة في وقت تعاني هذه جميعها من أزمة مالية تصعب عليها تأمين الوجبات اللائقة لمن تهتم بهم من صغار وكبار وشكلت تلك بادرة لافتة ألقت الضوء على ما يمكن للسلطة المحلية المتمثلة بالبلدية ان تنجزه إذا ترك لها القرار.