Site icon IMLebanon

رؤوس الماعز: «رجال» الإطفاء المجهولون!

 

 

اقتنعت كاليفورنيا بأن الماعز «حليف قويّ» في مواجهة الحرائق، ولم تقتنع وزارة البيئة وإدارة المحميات في لبنان بذلك بعد. فرق الإطفاء والإدارات المعنية في الولايات الأميركية استعانت أخيراً بالماعز للتخلص من الأعشاب القابلة للاحتراق، فيما لم تنفك وزارة البيئة اللبنانية، بالتعاون مع «زميلتها» وزارة الزراعة ومع إدارة المحميات، تعمل منذ مطلع التسعينيات لإخراج الماعز والحطّابين من الغابات والأحراج، بدل تنظيم عمليات القطع والرعي، وتطبيق مبدأ «من يعشْ من الأحراج فعليه أن يحميها»

 

مطلع الشهر الجاري، بدأت سلطات الإطفاء في ولاية كاليفورنيا الاستعانة برؤوس الماعز لرعي الأعشاب وإزالتها من الأراضي المحيطة بالغابات والمنازل المجاورة لها، قبل أن تيبس وتصبح قابلة للاشتعال. يأتي ذلك بعد عام (2020) الذي اعتُبر الأسوأ في تاريخ كاليفورنيا الحديث على صعيد الحرائق (تماماً كما كان الوضع في لبنان)، إذ ابتلعت ألسنة اللهب أكثر من 1,5 مليون هكتار من المساحات الحرجية. ومع التوقّعات بزيادة سنوية في الحرارة بفعل تغيّر المناخ، فإن الخشية من أن تصبح هذه المآسي الطبيعية أمراً «اعتيادياً».

 

بحسب تجارب عالمية، وممارسات عرفها لبنان سابقاً، تساهم قطعان الماعز في مكافحة استباقية للحرائق، من خلال التهام الأعشاب والنباتات القابلة للاشتعال بسرعة، فتنشأ بذلك مناطق عازلة و«كوريدورات» بين المساحات الحرجية والمساكن، تشكّل حاجزاً يتيح للإطفائيين التدخل في «بيئة أكثر أماناً». هكذا باتت المواشي تُعتبر جزءاً من آليات مكافحة الحرائق من دون أي كلفة، ناهيك عن مساعدتها في توفير استخدام المياه العذبة، وفي الوقود المستخدم في آليات الإطفاء، وفي نفقات استخدام الطائرات، وتقلص من الخطر الذي يهدّد حياة رجال الإنقاذ، خصوصاً في المناطق ذات التضاريس المتعرّجة التي لا يصلها غير الماعز المعروف بمهارته في التسلّق… طبعاً شرط أن تبقى عمليات الرعي تحت المراقبة ووفق تنظيم دقيق كي لا تنزلق إلى «الرعي الجائر».

في كاليفورنيا، تجري الاستعانة بشركات متخصّصة تأتي بقطعان الماعز لأداء هذه المهمة، مقابل بدلات مالية. أما في لبنان، فتمكن الاستعانة بـ«المعّازة» مجاناً، وسيكونون من الشاكرين. إذ إن من تقاليد الرعي، خصوصاً في الأحراج اللبنانية، أن يدفع المعّاز لأصحاب الأحراج، مقابل الرعي، حليباً أو لحماً أو سماداً.

 

تساهم قطعان الماعز في مكافحة استباقية للحرائق

 

 

«الميزة اللبنانية» الأخرى التي كانت سائدة بالممارسة، خصوصاً في جبل لبنان، هي الدمج بين الرعي والتحطيب في ما يشبه إدارة متكاملة ومستدامة للأحراج. إذ كان الحطابون يدخلون إلى الأحراج، بين فترة وأخرى، لتحطيب الأشجار في عملية يُطلق عليها اسم «الفرع». وكانت قطعان الماعز تُحرم من دخول هذه الأراضي لمدة تُراوح بين خمس وعشر سنوات (بحسب نوع الأشجار وسرعة إعادة نموها)، لإعطاء فرصة لنمو هذه الأشجار، وحتى يتجاوز طولها ضعفَي طول رؤوس الماعز المعروف بأنها تأكل رؤوس الأشجار الطرية وتتسبب بإعاقة نموّها من جديد.

إذاً، لطالما كانت حركة الماعز في لبنان جزءاً من نمو الغابات والأحراج، ومن دورة حياة الناس والغابة معاً، عبر رعي الأعشاب القابلة للاحتراق أو عبر ترك فضلاتها كسماد عضوي يساهم مع بقايا أوراق الشجر في تخصيب التربة وجعل أوراق الشجر أكثر اخضراراً. وكان المستفيدون من الغابات والأحراج، من حطابين ومعّازة وجامعي الأعشاب الطبية والعطرية، هم أنفسهم حُماتها، والحريصين على استدامة مواردها. ومع تطور الحياة ودخول التكنولوجيات كالمناشير (بدل الفؤوس) التي تعمل على الوقود، وقع الاختلال الأول والأخطر على حياة الغابات. إذ ضربت هذا «التقسيم التاريخي»، وبات كلّ من يُتقن حمل منشار تهديداً لمهنة الحطّاب وللأشجار والغابات معاً، لسهولة القطع وسرعته، بما لا يتماشى مع سرعة نمو الغابات وتجددها. كما هدّد تجار الأعشاب من شركات كبرى بانقراض كثير من الأعشاب الطبية والعطرية بسبب القلع الجائر لها، في غياب أي مراقبة وتنظيم.

ولأن فكرة إنشاء المحميات في لبنان، تزامنت مع إنشاء وزارة البيئة بداية التسعينيات، بُنيت فكرة حماية الأحراج والغابات على منع دخول أيّ كان إليها. أول المتضررين من ذلك كانوا الحطابين والمعّازة وجامعي الأعشاب الغذائية والعطرية والطبية وأعشاب الزينة، إضافة إلى الصيادين والنحّالين. ويبدو، أخيراً، أن بعض إدارات المحميّات (أرز الشوف مثلاً)، استدركت الأمر وبدأت في إعادة إدماج الناس بالمحميات، عبر إعادة التعاون مع «أصحاب المصلحة» من خلال مساعدتهم في العودة إلى الطبيعة والاستفادة منها والحفاظ على تجدّدها. كما قامت بتطبيقات نموذجية لفكرة فرم أغصان تشحيلات الأحراج (لتفادي الحرائق) وتحويلها إلى «كومبوست» وتوزيعها على المزارعين لتخصيب التربة. وهي لن تعجز عن إيجاد سبل للتعاون مع المعّازة وتنظيم دخولهم إلى المحميات، وأن تفصل بين أحراج الرعي وممرات الرعيان وتلك المخصّصة لدروب السياح.

 

الرعي بدل العلف

 

 

إعادة الماعز إلى الأحراج تُعدّ أحد سبل مواجهة الأزمة الاقتصادية والبيئية التي يمر بها لبنان. فالرعي في الأحراج يوفر كثيراً من الأعلاف التي باتت أسعار خلطاتها باهظة، وتكلّف نحو عشرة آلاف ليرة يومياً لرأس الماعز الواحد. الرعي يوفر الكثير من هذه الأعلاف على المربين ما يجعل من أسعار الحليب ومشتقاته معتدلة تناسب المستهلكين، إضافة إلى ما لرؤوس الماعز من ميزات تفاضلية على المشتقات الحيوانية الأخرى (ولا سيما الأغنام والأبقار) نظراً إلى قلة دسامة لحومها ومشتقاتها من حليب وأجبان وألبان، وما توفره من أدوية لضغط الدم أو لمعالجة تصلّب الشرايين ومراكمة الدهون والكوليستيرول السيئ.