وُلد يسوع ابن الله إنساناً… فتمّت المواعيد، وانتهى زمنُ الانتظار وبدأ زمنُ رجاءٍ جديد. كانت ولادته محورَ تاريخ البشرية؛ به انتهى الزمن القديم ومعه بدأ الزمن الجديد. كان قبل الزمن، وهو باقٍ إلى أبد الدهور. هو مَن صنع التاريخ، لأنه الله؛ لأنه كلمة الله، «والكلمة هو الله».
«به كان كلّ شيء ومن دونه ما كان شيء ممّا كان. فيه كانت الحياة والحياة نور الناس. والنور يُشرق في الظلمات ولم تدركه الظلمات» (يوحنا 1/ 2-5).
في ميلاد 2016، يشرق نورُ المسيح ليمحو ظلمات عالمنا الغارق في الحروب والإرهاب، ويحقّق ما كان قد أعلنه آشعيا النبي عن زمن جديد يعود فيه الإنسان إلى الله فيبني ما هدّمته الخطيئة، وما كان قد نادى به يوحنا المعمدان عن التوبة والاستعداد لاستقبال الملكوت الآتي.
في الزمن القديم، أرسل الله النبيّ آشعيا «صوتاً منادياً في البرّية: أعدّوا طريق الرب» (أشعيا 40/3)، ليعزّي شعبه الذي كان لا يزال يعيش مأساةَ المنفى إلى بابل، معلناً أنّ زمن الشدة ولّى والألم انتهى والخطيئة غُفرت وأنّ العودة إلى الوطن باتت ممكنة عبر طريق سُوِّيت.
خبرة المنفى كانت كارثة في تاريخ شعب الله الذي كان قد انكسر وخسر كلَّ شيء وسيق إلى المنفى: خسر الأرض والوطن والحرية والكرامة، وخسر ثقته بالله فابتعد عنه وراح يشعر أنه متروك ولا رجاء له.
جاء أشعيا يفتح قلب الشعب والرؤساء على الإيمان بالله ويعلن عن رجاءٍ جديد، ويقدّم له إمكانية أن يسير على طريق الرب التي تعبر بالصحراء في العودة إلى أرض الوطن، ويذكّرهم بالخروج من مصر وسلوك الصحراء في العودة إلى أرض الميعاد.
إنه زمنُ الرجاء! زمن بالغ الأهمية، لأنّ آشعيا يعلن فيه عن نهاية المنفى وبداية سلوك طريق العودة إلى الله وإلى الوطن، حيث سيعود أبناء الشعب «ويبنون أخربة الماضي، ويشيّدون مدمّرات قديم الأيام، ويجدّدون المدن المخرَّبة، ويرثون في أرضهم ميراثاً مضاعفاً، وفرحٌ أبدي يكون لهم» (أشعيا 61/4 و7).
وفي تمام الأزمنة، أرسل الله يوحنا المعمدان «صوتاً صارِخاً في البرّية أعدّوا طريق الرب واجعلوا سُبُله قويمةً» (متى 3/3). إنه صوتٌ يصرخ حيث يبدو أن لا أحد يسمع، ومَن يسمع في البرّية؟ ويبشر بالتوبة واقتراب ملكوت السماوات؛ وكان شعبُ الله غارقاً في الخطيئة، بينما كان يعاني من الاحتلال الروماني الذي جعل منه غريباً على أرضه ومحكوماً من محتلِّين أقوياء يفرضون سلطتهم عليه ويقرّرون مصيرَه.
أما في الزمن الجديد، فقد أرسل ابنه الوحيد يسوع المسيح ليولد في «مذود» فقيراً حقيراً مهجَّراً وغريباً بين أهل بيته؛ كلّ ذلك لأنه شاء أن يتبنّى البشرية من أدنى درجاتها إلى أرفع مستوياتها لكي يحملها بفقرائها ومستضعَفيها ومظلوميها ومهجَّريها وسلاطينها وأغنيائها وحكامها ويرفعها إلى مستوى الألوهة. إنه سرُّ الحب المطلَق؛ سرُّ الله الذي أراد، من فيض محبته للإنسان، أن يتأنّس ليتألّه به الإنسان. إنه سرُّ ابن الله الذي صار ابنَ الإنسان لكي يتسنّى لكلّ إنسان أن يصبح ابناً لله.
وفور ولادته، حضر ملاك الرب على «رعاةٍ يبيتون في البرّية ويتناوبون السهر في الليل على رعيّتهم؛ وقال لهم: لا تخافوا، ها إني أبشركم بفرح عظيم يكون فرح الشعب كله؛ وُلد لكم اليوم مخلّص هو المسيح الرب».
«فجاءوا مسرِعين إلى بيت لحم ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في مذود» (لوقا 2/8-16). وحدهم الرعاة سمعوا كلام الملاك في البرّية وراحوا يُنشدون الفرح العظيم ويخبرون بحدث ولادة ابن الله في الزمن ودخوله التاريخ والجغرافيا. أما الولاة والحكام والملوك وعظماء الكهنة والكتبة فلم يريدوا أن يسمعوا الخبر فيصدّقوا فيؤمنوا.
وحده «هيرودس الملك اضطرب واضطربت معه أورشليم كلها» لأنه خاف أن يسلبه مُلْكَه. «فاستشاط غضباً وأرسل فقتل كلّ طفل في بيت لحم وجميع أراضيها من ابن سنتين فما دون» (متى 2/3 و16).
لم يعرف هيرودس، ولم يعرف الملوك والسلاطين، أنّ «الله هو الذي يصنع التاريخ ويكتبه مع الضعفاء والصغار»، كما يقول قداسة البابا فرنسيس.
نعم، خربط يسوع بولادته كلّ حسابات الأقوياء والرؤساء وافتتح للبشرية تاريخاً جديداً وزمناً جديداً، هو زمن الرجاء!
أما اليوم، وما أشبه اليوم بالأمس القريب والبعيد، يولد يسوع في أواخر سنة 2016، بينما نحن نعيش في يأس من حالتنا وكأنّ ظلام الخطيئة، الذي يظهر في الحروب الدائرة من حولنا عبر الحقد والانتقام والعنف والإرهاب، سيظلّ مخيِّماً!
كم نحتاج إلى الرجاء في أيامنا التي تبدو مظلمة، ونحن نشعر أننا ضائعون في مواجهة الشر وآلام إخوة لنا، ويبدو أنّ هذه الظلمة لن تنتهي.
يولد يسوع فتنقشع الظلمة وينبلج نور الصباح، ويبشرنا ملاك الرب بفرح عظيم، هو فرح الرجاء الجديد. لكن أين نحن من تاريخ الله ومن زمن الرجاء؟
هل نحن في حالة إصغاء لنسمع صوته فنرتل مع الملائكة: «المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر»؟
إنّه الرجاء بأنّ يسوع «سيمسح كلّ دمعة من عيوننا، ولن يبقى للموت وجود بعد الآن، ولا للحزن ولا للصراخ ولا للألم؛ لأنّ العالم القديم قد زال» (رؤيا 21/4)، وبزغ فجر عالم جديد.
هل نؤمن بذلك؟ وهل نترجّى تحقيقَ مشيئة الله؟
يرسل الله إلينا علاماتٍ، فلنقرأها في ضوء إيجابيات زمننا الحاضر. إنه زمن عهدٍ جديد. لقد أتى الفرج بانتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة جامعة، ونحن نكاد لا نصدّق لأنّ زمن المحنة طال أمده. إنه رجاء جديد للبنان.
تعالوا نتوب ونعود إلى الله أبينا ونفتح له قلوبنا فيزرع فيها الرجاء والقدرة على مجابهة الشرّ وصنع السلام.
تعالوا نتضامن لنعيد بناءَ بيتنا المشترَك، لبنان، الوطن الرسالة في الحرّية والديمقراطية واحترام التعدّدية.
أما وقد تحرّرنا من نير الاحتلال وعقدة التشرذم والفرقة، ونستطيع الآن أن نقرّر مصيرنا بأنفسنا،
فتعالوا نكتف الأيدي ونطوّر الإنسان والمجتمع ونبني معاً السلام!
وما نرجوه لأنفسنا كلبنانيين في ميلاد 2016، نرجوه لإخوتنا في حلب ودمشق وبغداد والموصل والقاهرة وأنقرة وكلّ بلدان الشرق الأوسط والعالم، طالبين لهم أن يعودوا إلى الله ويسلكوا طريقه القويمة ويعيدوا بناء ما تهدّم حجراً وبشراً!
إنها فرحة الميلاد، فرحة الرجاء الجديد، فرحة السلام الآتي إلينا بيسوع المسيح ملك السلام.