توجد نظرية عند بعض مَن يحاول الخروج من الدوامة التي نعيش فيها ومحاولة تغيير ستاتيكو الفساد المسيطر، وهذه النظرية مبنيّة على المثل الشعبي «إسأل مجرّب ولا تسأل حكيم»، وبالتالي أصحاب النظرية يحاولون البحث عن بلاد أصابها ما أصابنا وكيفية الخروج من المأزق لنتعلّم من تجربتها.
هنا لا بدّ من العودة الى نلسون مانديلا وكلمته الشهيرة «لننسَ الماضي ونبدأ من اليوم»، ومانديلا كان يتكلّم عن أكثر من الفساد الاقتصادي، كان يتكلم عن الطريقة الوحشية والعنصرية التي تعامل فيها النظام مع الأكثرية السوداء في البلاد، وعلى رغم ذلك طالب مانديلا بفتح صفحة جديدة ونسيان الماضي، هذه تجربة حتماً يجب أن نتعلّم منها ونسيان الماضي ربما قد يكون مفيداً خصوصاً أنه من الواضح أنّ أيّ محاولة لمحاكمة المسؤولين ستصطدم بالموضوع الطائفي المذهبي.
كما توجد تجربة أخرى هي تجربة سنغافورة وكيف تمكّن هذا القائد الفذّ لي كوان يو أن يوقف الفساد. وللتذكير فقط فإنّ المجتمع السنغافوري مؤلفٌ من إثنيات هندية وصينية وماليزية، وكان الفساد مستشرياً في هذا المجتمع، لكنّ كوان يو تعاوَن مع فريق عمل مؤلَفٍ من كلّ هذه الإثنيات ومؤمنٍ بعملية الإصلاح والتغيير والجميع كان تعهّد بالقضاء كلياً على ظاهرة الفساد،
وكما نرى اليوم تتصدّر سنغافورة كلّ الاحصائيات المتعلقة بالحوكمة ومحاربة الفساد، وبالتالي نجَح الاصرار على اقتلاع هذه الآفة من المجتمع بشكلٍ كبير، لأنّه نجح مع فريق عمله المؤلَف من كلّ مكوّنات المجتمع السنغافوري كما ذكرنا بفرض الشفافية والحوكمة ونظام تعليمي يُعتبر من الافضل في العالم، ونظافة قلّ نظيرها في العالم ودخل فردي يُعتبر من الأكبر في العالم إذا استثنينا إمارات النفط.
الملفتُ للنظر في مجتمعنا أنه عندما تتكلّم مع مجموعة من مجموعات بلدنا يكون عادة التركيز على فساد المجموعات الأخرى، وكلّ زعيم عنده سلّة من الفضائح تطاول الزعماء الآخرين، وفي حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مثلاً كانت هناك محاولات مميتة عدة للكشف عن فساد مزعوم في وزارة الطاقة والاتصالات. في الواقع وعلى رغم كلّ التشكيك لم يتمكّن المشككون من إثبات أيّ شيء من هذا النوع وطبعاً يتحوّل الموضوع الى البازار السياسي واتهامات غير واضحة المعالم وغير مثبتة بأيّ شكل من الأشكال.
أما فريقنا السياسي فقد وصل الى حدّ وضع كتاب عن الإبراء المستحيل وبما أنّ هذا الإبراء اتضح أنه مستحيلٌ كما أثبتت الوقائع فربما علينا التفكير بطريقة جديدة. نتحدّث يومياً عن وضع المرفأ والمطار وسوليدير والضمان الاجتماعي وغيرها. ولكن من دون أيّ نتيجة تُذكر علماً أننا وضعنا إثباتات عن المخالفات غير قابلة للجدل خصوصاً في ما يتعلق بالمرفأ والمطار.
مَن يقرأ ما أكتبه قد يقول إنّ هذا الرجل حالم وما زال يتكلم عن رؤية لم ولن تتحقّق للبنان، ولكنني مؤمنٌ بأنّ الاصلاح والتغيير لن يتحقّقا ما لم نعتمد على فكرة «عفا الله عما مضى»، وأن يتعهّد الجميع بدعم مطلق للشفافية ولقانون حرية الحصول على المعلومات ووضع كلّ حسابات المال العام لكلّ الإدارات والوزارات وكلّ ما هو مملوك من الدولة على الانترنت، وإعادة النظر في الطريقة المتّبعة لإجراء المناقصات، واعتماد الشفافية المطلَقة وفتح شروط المناقصات للعلن ونشرها ليتمكّن جميع المواطنين بلا استثناء من الاطّلاع عليها، وبالطبع يجب على كلّ موظف من القطاع العام وكلّ وزير وكلّ نائب التخلّي علناً عن السرّية المصرفية له ولأفراد عائلته، وإقرار قانون الإثراء غير المشروع وغيره من القوانين اللازمة لفرض الحوكمة والشفافية.
وعلينا كذلك إعلان الحرب المفتوحة على كلّ الاحتكارات على أشكالها وأنواعها إن كانت احتكاراتٌ للقطاع العام أو الخاص ومنع أيّ نوع من الاحتكار منعاً باتاً.
وهنا نصل الى السؤال الابرز الذي يُسمّى باللغة الانكليزية «The one billion dollar question»: هل توجد النّية لدى زعمائنا بالتخلّي عن الفساد والرشوة والسرقات والنهب؟
فإذا كانت النّية موجودة نستطيع أن نصل من خلال «عفا الله عما مضى» والتي من دونها لن ننجح في فرض أيّ تغيير بل على العكس ستزيد الاصطفافات والانقسامات التي ستؤزّم الوضع، بهذه الطريقة نستطيع أن نصحّح المسار ونصل الى النتيجة المتوخّاة.
ويبقى السؤال أيضاً: هل من الممكن أن نجنّد آلاف اللبنانيين ليطالبوا معنا بإطلاق حركة جدّية من كلّ الطوائف والمذاهب الموجودة في لبنان لفَرض التغيير المطلوب لإيقاف هذا المسار الانتحاري؟
فلننضمّ جميعاً الى «حركة الأوادم» التي ستعكس هذا المسار الانتحاري وتُحقّق لبنان الرؤية والحلم. «حركة الأوادم» من المفروض أن تنطلق من رحم «طلعت ريحتكن» من المجتمع المدني لأنّ الريحة طالعة ليس فقط من الزبالة، الريحة طالعة من مرفأ يأخذ من المستوردين ضرائب سيادية لا تدخل الى خزينة الدولة، وتأخير في معاملات التخليص ما يكبّد المواطن اللبناني أكثر من 200 مليون دولار من الفوائد على بضائع تستمتع بشمس المتوسط، فهل توجد ريحة طالعة أكثر من ذلك؟
سوق حرّة يجب أن يكون دخل الدولة منها أكثر بعشرة أضعاف ممّا هو عليه اليوم، وهذه موجودة في المطار من دون أيّ مسوغ قانوني لأنّ العقد انتهى منذ سنوات، ضمان اجتماعي لم يتمكّن في الأعوام العشرين الاخيرة من إصدار بطاقات حساب فردي للمضمونين.
الريحة طالعة من كلّ المناقصات بلا استثناء وآخرها الميكانيك واللوحات الجديدة وغيرها الكثير، الريحة طالعة من أداء الإدارات العامة التي لم تتطوّر قيد أنملة وآخر الغيث محاولة تشريع الرشوة في احدى الوزارات.
الريحة طالعة من غياب الموازنة العامة وعدم إقرارها منذ عشر سنوات، ما يفتح بابَ الهدر على مصراعيه. الريحة طالعة من مشتريات الأسلحة وغيرها من المكرّمة السعودية بلا مناقصات وبسرّية مريبة.
الرائحة تفوح من كلّ الاتجاهات، فهل ستنطلق «حركة الأوادم» أم سنستمرّ في النق بلا نتيجة؟