تسييل “المعدن الأصفر” يضعه على طريق احتياطي العملات الأجنبية
يستمر الشعاع الأصفر المنبعث من السبائك الذهبية في جذب أنظار الباحثين عن مخرج من الأزمة اللبنانية. فعلى أعتاب الحائط المسدود الذي أُوصل اليه البلد، تتقهقر جيوش الحلول وتتساقط الخطط الإنقاذية. ولم يعد من طريقة برأي كثيرين لفتح كوة في هذا الجدار السميك من المشاكل، إلا قوة انصهار ذهبية تستهدف النقطة الأضعف المتمثلة بحماية مصالح المواطنين.
تنوعت الاقتراحات للاستفادة من احتياطي الذهب البالغ 286.6 طناً بقيمة سوقية قد تصل اليوم إلى 18 مليار دولار، خصوصاً بعد ثورة 17 تشرين. البعض رأى في تسييل جزء منه حلاً لعدم تخلف لبنان عن دفع ديونه الخارجية وبالتالي حفظ حقه في الاستدانة من الاسواق العالمية، وعدم تصنيفه دولة فاشلة. والبعض اقترح تسييله (بيعه) بالكامل والاستفادة من عوائده في اعادة بناء الاقتصاد. والبعض اعتبر ان استخدام جزء منه كضمانة لأخذ قروض overdraft بقيمة 5 إلى 6 مليارات دولار وضخها في الاسواق عبر المصارف، يؤمن السيولة للشركات في القطاع الخاص وسوق القطع وينقذ الاقتصاد. والبعض وجد في هذه القيمة الكبيرة، أو جزء منها، رافداً أساسياً للصندوق السيادي إلى جانب بقية أصول الدولة، من أجل تسديد ديون المصارف وتمكينها من ارجاع حقوق المودعين. ومع استفحال الازمة النقدية وبدء الحديث عن رفع الدعم خرج بعض الاصوات ينادي باستخدام الاصول الذهبية لتمويل البطاقات التموينية لكل الشعب اللبناني. أما أحدث الاستخدامات المقترحة فهي التصرف بجزء منه للتعويض عن المتضرّرين من انفجار مرفأ بيروت بحسب ما اقترح النائب السابق لحاكم مصرف لبنان محمد بعاصيري.
لكن هل هذا حقاً الوقت الانسب لاستخدام احتياطي الذهب؟
أنصار نظرية التصرف بالذهب ينطلقون من قاعدة بسيطة مفادها ان “الهدف من الاحتفاظ بالذهب طيلة السنوات الماضية كان لاستعماله في أوقات المحن والأزمات. ونحن اليوم نمر في أصعب الاوقات، حيث تخطى الانكماش الاقتصادي الـ 25 في المئة، وانهارت القيمة الشرائية للعملة الوطنية، وأصبحت أكثر من ثلثي رواتب القطاع العام لا تساوي أكثر من 250 دولاراً أميركياً، وتخطى معدل الفقر الـ 55 في المئة والبطالة تحلق فوق نسبة 50 في المئة. وفوق هذا كله أتى انفجار المرفأ ليزيد الاعباء على الاقتصاد بما يزيد عن 8 مليارات دولار. وإن لم يكن اليوم هو الوقت المناسب للاستفادة من القرش الاصفر فأي متى يكون؟
الإصلاحات أولاً
على المقلب الآخر فان الطرق الكثيرة لاستخدام الذهب توصل إلى نتيجة واحدة، وهي: ضياع ما تبقى من ثروة وطنية من دون أن نخلق أي قيمة إضافية. “فطالما نظامنا السياسي الطائفي القائم على الاستئثار بالسلطة والفساد والتحاصص، والذي شكل أداة لتغطية أكبر عملية نهب شهدها بلد في التاريخ، فان بيع الذهب مرفوض”، يقول الخبير الاقتصادي د. كمال حمدان. “فهذا الاقتراح لا يكون إلا من ضمن اصلاحات سياسية واسعة، تبدأ بإحداث خرق في النظام الطائفي وتنتهي في تنفيذ المطالب الاصلاحية التي تضمنتها الاوراق المتداولة. وذلك سواء بالنسبة إلى القضاء، أو استرداد الاموال المنهوبة، أو رفع الحصانات، أو المحاسبة والمساءلة، أو فرض الاتفاق على ارقام الخسائر والاتفاق على آلية توزيعها، واستحداث قانون عصري لتحويل الاموال”. وبرأي حمدان “فان لم يأتِ التفكير بالتصرف بأي ملك عام، من ضمن حزمة تضم كل هذه الإصلاحات، وعلى رأسها طبعاً نظام للتمثيل النسبي وقوانين للاحزاب الطائفية، فلن يكون ذا جدوى”.
المشكلة بالثقة
مقابل الحجج الكثيرة التي يسوقها منظرو التصرف بالمعدن الأصفر، والتي تدغدغ احلام الفقراء والمودعين بغد أفضل، ينطلق معارضو النظرية من مثال “مصير الاحتياطي الالزامي” الحسي البسيط الماثل امام عيوننا، لرفضهم المس بالذهب. فغياب الاصلاحات وتعمّق السرقة والفساد ضيّعا من احتياطي العملات الاجنبية حوالى 13 مليار دولار منذ نهاية العام الماضي وصولاً إلى اليوم أي في غضون عام واحد. و”هذا ما سيكون عليه مصير تسييل الذهب أو التصرف به آنياً في ظل عدم وجود خطة اصلاحية” يقول رئيس تجمع رجال الاعمال اللبنانيين فؤاد رحمة.
“وبذلك نكون “ندفنه” بنفس “مقبرة” الاموال والاصول الرديئة، ولا نحصل في المقابل إلا على تمديد فترة الازمة”.
المشكل الذي نواجهه برأي رحمة “سياسي وليس تقنياً. فيوم يعود لبنان إلى الشرعية الدولية، ويبدأ الاصلاحات المطلوبة ستتأمن السيولة المطلوبة من الدول المانحة وصندوق النقد الدولي. عندها فقط نعيد التفكير بامكانية التصرف بالذهب في حال كانت هذه القروض غير كــافية لاعادة بناء الاقتصــاد وتأمين المتطلبات”. الحاجة الملحة إلى السيولة تجد في احتياطي الذهب الملاذ الاخير.
لكن على الرغم من هذه الحاجة الماسة فان “التصرف بالذهب يجب ان يأتي من ضمن خطة استعادة الثقة المتكاملة”، يشدد رحمة.
“وهذه الثقة لا تعود من دون اصلاح وإعادة تكوين السلطة السياسية، والمباشرة ببرنامج اصلاح جدي ووضع خطة مع صندوق النقد الدولي”.
ليس المصدر الأوحد للسيولة
على عكس ما يعتقد البعض، فان الذهب ليس المصدر الأوحد لتأمين السيولة. فلبنان بحسب رحمة “بلد غني ويملك من الاصول ما يخوله الحصول على حاجته من العملات الاجنبية المطلوبة والخروج من الازمة بسهولة”.
أما الطريقة برأيه “فهي عبر نقل موجودات الدولة من شركة الطيران وشركـــات الاتصـــالات والواجــهة البحرية والمصـــالح والمرفأ وغيرهـــا من الاصول ذات القيمة إلى “الصندوق السيادي” الذي يكون برعايتها.
عملية نقل هذه الموجودات المترافقة مع الخطة الاصلاحية والدخول في الشرعية الدولية والعربية تمكّن “الصندوق” من إصدار أسهم. وبهذه الطريقة نخلق السيولة اللازمة من دون الاضطرار للمساس بالذهب”.