عقد على غياب الحاضر الذي لن يغيب. كان وعداً لمستقبل لبنان وصار إيقونة لرجاء لبنان. لرفيق الحريري الرئيس الشهيد آلاف الصور، ولي معه عشرات من جلسات الهمس الصباحي، الذي غالباً ما اقتحمه الصديق باسم السبع، لكنني في كل سنة مع ذكرى فجيعة لبنان به وبنا من بعده، أعود الى صورة واحدة له محيّرة فريدة وهائلة.
متكتفاً وملقياً برأسه الى الوراء في مجلس النواب، محدقاً في فضاء البرلمان، متأملاً، متألماً ووحيداً حتى الصميم وسط “ضوضاء التشريع”، ترى ماذا كان يقول رفيق الحريري لربه، وكيف كان يرجو مساعدته لدفع لبنان الى القيامة التي ستنتهي بدفعه هو الى الإستشهاد!
ليس في تاريخ رفيق الحريري صورة عن معاناته من اجل لبنان مثل هذه الصورة، دعونا من ساحة الهول الناري عند الجادة البحرية. ففي تلك الجريمة المغولية امتدت يد السماء وانتشلته ليصير أيقونة، لكنني غالباً ما وجدت في إطراقته الى سقف البرلمان واستطراداً الى أذن السماء، معاناة لم يعرفها أيوب ولا المختارون فداء للأوطان!
ماذا كان يقول رفيق الحريري لربه؟
لماذا تتركني في المعاناة والفريسيون من بيروت الى دمشق وأبعد من دمشق، ولماذا تتركني في المرارات وانا أريد بيروت مدينة عريقة للمستقبل ولبنان وطناً لدرّة المتوسط وآسيا؟
لم يكن رفيق الحريري صاحب قضية كان صاحب رسالة وطنية وإنسانية، واذا كانت القضايا تتعثر مع غياب أصحابها فإن رسالته باقية في وجدان لبنان، وفي تصميم الذين يحملون رايته صارخين من أعماق جروحهم وراء سعد الحريري “لبنان يجب ان ينتصر، لبنان التفاهم والتكاتف والتضامن والرسالة هو القضية”، نعم لبنان الذي إنبثق استقلاله مثل زهرة من جوهر شهادة رفيق الحريري ودمه.
عرفته منذ بداياته في “دار الصياد” كان مع أخيه شفيق حالماً بالحرية، وكان في القومية العربية محرّضاً على الحرية، وبعد تمكّنه صار صانعاً للحرية، ومع إقتداره العابر للقارات صار حامياً للحرية، وفي رسالته الصافية وتحديه الوجداني صار مدوّناً لحرية لبنان الوطن بأبجدية شهادته.
كان رفيق الحريري والداً لجيل كامل من حملة الدكتوراه صنع جيشاً للمعرفة، عندما كان الآخرون يصنعون الميليشيات والجهل والخراب، ومن عمق معاناته في نشأته والطموح عرف اهمية التفاعل الخلاّق بين المعرفة والحرية كأساس لصنع الأوطان، ولأنهم أرادوا اغتيال لبنان إغتالوه ولكن في شهادته قيامة وطن ولو بعد حين.
من مكتبي في “النهار” غالباً ما أراه في الامسيات يتمشى في الوسط الحزين، الأرصفة تناديه والأنوار تهفّ إليه والزهور تهتف له:
مساء الخير دولة الرئيس، مساء الخير يا أبو بهاء، ماذا فعلوا بك، ماذا فعلوا بنا… وماذا فعلوا بلبنان؟