IMLebanon

يعيش أهل بلدي!

«.. ليس حراً من يُهان امامه انسان ولا يشعر بإهانة»

نيلسون مانديلا

أن يُقتل رجل في احد شوارع بيروت قد تبدو للوهلة الأولى مسألة تدل على فقدان الأمن وتسيّبه في العاصمة بل في سائر المناطق. وأن يلوذ القاتل بالفرار فهذا ما تعودنا عليه على الطريقة اللبنانية، إذ لن يلبث ان يتم العثور عليه، او يستسلم للقوى الأمنية. وان يتمكن القاتل من الهرب الى احد المربعات الامنية التي لا تصل اليها يد العدالة فهذا ايضاً ما تعودنا عليه. بل قد يكون بمقدوره الوصول الى احد الممرات الحدودية غير الشرعية فيتوارى في حمأة القتال للسفر هناك..

بدا لبعضهم تقليلاً من أهمية الحدث، انه في خضم الحروب الداخلية وسفك الدماء المتواصل والتصفيات والاعدامات البربرية التي تجتاح المنطقة العربية، فان قتل رجل واحد في احد شوارع بيروت مسألة عادية. بل راح بعضهم يذكرنا بالمتهمين بالقتل المتعمد والاغتيالات، وما أكثرها عندنا، الذين هم حتى اللحظة متوارين عن الأنظار، الا اننا نرى في ملابسات جريمة الاسبوع الماضي والتي ما زالت تتناقلها الفضائيات اللبنانية والعربية، قضية في غاية الخطورة. فقد اطلعنا على ملابسات الجريمة لجهة الزمان والمكان والاسلوب والطريقة التي تمت فيها، لا بل اصبح معروفاً من هو القاتل ومن هي الضحية، واداة الجريمة.

ان دلالات الجريمة التي شاهدنا وقائعها بفضل كاميرا مثبتة في أعلى احد الابنية المطلة على الشارع، لا تكمن خطورتها في بربريتها، ولا في الاصرار المتعمد من القاتل على تسديد طعنات عدة للمغدور، ولا في رؤيتنا الضحية وهو يلفظ انفاسه متلوياً على احد الارصفة، بل في مسألة أخرى فاتت الكثيرين من اللبنانيين الذين صعقوا من الذهول لدى مشاهدتهم شريط الفيديو عل شاشات التلفزة. ان خطورتها لا تكمن في انها جرت في الشارع العام، وأمام سمع وبصر المارة وأصحاب المحال وزبائنهم فحسب، بل لأن ما من احد قط من هؤلاء جميعاً لم ينبرِ ولم يجرؤ ولم يبادر للتصدي للقاتل أو يحول بينه وبين الضحية أو يبدي اعتراضاً لمرأى ما يشاهد! وكأن هؤلاء جميعاً غير معنيين بما يحصل، ولا يبدون اكتراثاً لرؤيتهم إنساناً ينحر إنساناً آخر علناً وجهاراً وفي الشارع العام في وضح النهار.

معنى ذلك بكل أسى ومرارة أن الرأي العام قد مات أو في طريقه إلى الاحتضار فالموت. معنى ذلك أيضاً سقوط أبسط قواعد وشروط الشعور بالمواطنية، والأخلاق الإنسانية وواجباتها وأعرافها السائدة والمتبعة في كل زمان ومكان. معناه أيضاً أن الحد الأدنى من الحس والوعي بالمسؤولية الاجتماعية والنزر اليسير المتبقي في ضرورة احترامنا للنفس البشرية والحياة وبكرامة الإنسان فينا قد زال.

إن حالة عامة لا توصف من الريبة والخوف والهلع قد نهشت نفوسنا وعطلت وعينا فجعلتنا أشبه بالدمى التي تحركها قوة خفية عند الحاجة، أما ما عدا ذلك فإنها تبقى ميتة بلا حراك.

إن الموقف الصواب يتطلب أحياناً وجود رجل واحد أو مجموعة ولو قليلة العدد من الشرفاء، من الذين ما زالوا بشراً أسوياء كي يستنهضوا مجتمعاً كاملاً بأسره ليستفيق بعد سبات. فعوضاً عن القبول والرضوخ والإذعان كما الآخرين للأمر الواقع فإنهم ينتفضون لينتصروا لكرامة الإنسان ورفض الظلم مهما بلغ جبروته من قدرة وشأو وبطش. وهذا بالضبط ما فعله جان بول سارتر عام 1959 في باريس عندما كانت مجموعة الجنرالات وقادة الأجهزة الفرنسية الفاشية تفتك بالجزائريين والمهاجرين المنتفضين سلمياً تأييداً للثورة. كان نهر «السين» كل ذات صباح آنذاك فطفت على سطحه جثث الذين جرت تصفيتهم أثناء الليل.. يومها نزل سارتر وحده إلى الشارع ليتصدر في الطليعة تظاهرة جزائرية صامتة. لقد فجر سارتر يومها بصدقه وشجاعته مناخاً جديداً فبدأ تلتحق به وجوه فرنسية مرموقة من الشرفاء الفرنسيين. تشجع ديغول آنذاك ليواجه الجنرالات، وتتكلل مساعيه في محادثات «إيفيان» بالنجاح (1962) فتنتزع الجزائر الاستقلال.

فلنقرأ الواقع كما هو من دون محاباة ولا مداراة: أنه على امتداد عقد كامل من الزمن، توالت الجريمة المنظمة عندنا والاغتيالات، وجرى العبث بالأمن والقانون والعدالة، وامتهان واغتصاب القيم وسحق إنسانية الإنسان لدرجة أن اجتاح الخوف والهلع نفوس اللبنانيين وضمائرهم، فجرى تعطيل الرأي العام.

فما عادت تهزنا لا الجرائم ولا حتى الاغتيالات ولا تؤثر فينا الاعتداءات الآثمة على القانون والعدالة والقيم الانسانية. فاصبح والحالة هذه بالإمكان ومن السهل تمرير اسوأ الإرتكابات بل المجازر. الم تكن لسان حال المارة والاهالي وأصحاب المحال، وقد لاذوا بالصمت ان تقول غالبيتهم في سرها حيال الجريمة التي ترتكب امام اعينهم: لو لم يكن هذا القاتل يستند الى قوى فاعلة أو مسلحة، لما تجرأ هكذا ان يجهز على ضحيته علناً وجهاراً بل نهاراً في الشارع العام!

أليس من الموضوعية بمكان الوصول الى استنتاجات محبطة من قبيل انه في مجتمع ما، عندما يختل ميزان العدل وينتهك القانون بتماد واسع النطاق دون رادع أو وازع أو محاسبة، بل عندما تفرض قوى مسلحة من خارج الدولة ومؤسساتها ارادتها بالقوة، ويستشري الفساد وتزدهر الطائفية والمذهبية، فان الراي العام نفسه يتعرض للوهن والضعف والتلف. لأنه لا يمكن فصل المواطن عما يدور حوله من سقوط مدو للقيم والقانون والأخلاق.

أو نعجب بعد كل هذا ان يصل بنا الامر لنجد بلادنا وقد اضحت بلا رئيس وببرلمان معطل وحكومة متصدعة وسيطرة قوى الأمر الواقع وانتشار شريعة الغاب؟

وكأني هنا من الذين يرتلون بمرارة مع «الشيخ امام» قصيدة احمد فؤاد نجم، وهي خير تعبير عن حالنا: يعيش اهل بلدي.