امس غادرنا بجسده.
امس استقر ثابتاً في بكركي التي أعطاها 63 عاماً من عمره كاهناً فمطراناً فبطريركياً – كاردينالاً.
بكركي التي كرس لها دورها الوطني بالموازاة مع دورها الديني، محافظاً على الإرث التاريخي، والتراث، والمسؤولية الوطنية العامّة، والموقف، وقول كلمة الحق.
اليوم سيستعيد كثيرون من معارفه الأوقات التي أمضوها معه، وسيسترجعون كلماته، ويتوقفون عند نباهته وذكائه المفرط، ورجاحة عقله، وسعة صدره، ومطواعية لغته السليمة، وقد كان أحد أبرز من يتعامل مع لغة الضاد قاطبة: كتابة وخطابةً.
عصر أمس غاب المثلث الرحمات البطريرك صفير بالجسد عن هذا الوطن، لبنان، الذي أحبه هِبةً من الله، أرادنا أن نتفهم معانيها، وأن نقدّرها، وأن نحسن التعامل معها.
لا شك في أنّ سيّدنا مار نصر الله بطرس صفير لم يكن قائداً روحياً وزمنياً وحسب، فقد كان أيضاً الرجل الاستثنائي في الحقبة الأكثر استثنائية من تاريخ لبنان…
ولقد كان على قدر المسؤولية، فحافظ على دور الصرح بيتاً للبنانيين جميعاً، ومقراً ثابتاً للقرار الوطني النابع من إرادة الناس ومن دروس التاريخ، ومن رسالة الموارنة والمسيحيين عموماً في هذا المشرق، في الأرض المقدّسة التي هي «أرض الله» في هذا الكوكب المضطرب، التي نشأت فيها الرسالات السماوية، والتي انطلقت منها التوراة والإنجيل والقرآن (…) والتي بفضل هذا تحوّلت الى ساحة حروب لا تنتهي، وميدان اضطرابات لا تتوقف، ومطمحاً لأصحاب المطامع على مرّ التاريخ.
أي إنها، كما كان يقول الرئيس المثقف المؤمن المرحوم شارل حلو، مازجاً الفكاهة بالواقع: إنها الأرض التي يتصارع عليها الأنبياء فلن يتمكن البشر من إيجاد الحلول لقضاياها!
ولقد سعى غبطته الى أن يجعل من أرض لبنان، ومن اللبنانيين، ومن المسيحيين، ومن الموارنة واحة للأمن والسلام والطمأنينة… إلاّ أنّ الرغبة في مكان والمطامع الدولية والمؤامرات الكبرى في مكان آخر.
لقد أحب البطريرك صفير كل مدينة وبلدة وقرية ودسكرة ومزرعة في لبنان، وأحب كل لبناني مسلماً كان أو مسيحياً أو ملحداً… ومن موقعه الرعائي كان «يعرف خِرافهُ، وخِرافُه تعرفه». ولكنه كان يعرف أيضاً المخططات ومخططيها، والمشكلات وصانعيها، ولعبة الأمم التي مارس لاعبوها علينا أبشع ما في السياسات والحروب من إجرام وإساءات ومؤامرات.
وقد شاءت العناية الإلهية أن يكون هنا، في موقع من: أُعطي مجد لبنان ليقول «لا» عندما يجب قولها… وليحقق المصالحة التاريخية في الجبل… وليشهد دائماً وأبداً للحق.
يا سيّدي من حظي أنني عرفتك وأنِستَ إليّ، وجالستُكَ… وشرفٌ لي أنك قلتَ فييّ ما أعتبره ذخيرة ترافقني وترافق أبنائي والأحفاد ما دام فينا عرق ينبض!
يا سيّدي كن، في عليائك، شفيع لبنان بعدما كنت درعه الواقية.