IMLebanon

بِشارة مريم: جبهة مسيحيّة إسلاميّة لمواجهة التطرّف

مِن جبل حريصا، على التلّة الرابضة المشرفة، التي لا تفارقها الشمس من مشرقها إلى مغربها، تُطلّ سيّدةٌ مُكلّلة بالتاج، تُبارك الغلالَ، تملأ السلال، تُشعِل الأمل وسط الألم، ذراعاها المفتوحتان تكرزان حناناً، ترويان عطشاناً، تحضنان يتيماً، ترعيان أرز لبنان. بنظراتها البريئة ترافق المسافرين، تَردّ عن البعيدين، تُلَيِّن قلوبَ الحاقدين… إنّها مريم العذراء المُبَشّرة عند المسيحيين والمسلمين، إبتسامات متبادَلة، نوايا مرفوعة، شموع مضاءَة… اليوم عيد البشارة.

تتوالى فصول الممارسات الإجرامية في المنطقة العربية، ويبلغ التطرّف ذروته، مِن قتل، وحَرق، وتهجير باسم الدين، يَستهدِف المسيحيين الذين يرفعون راية السلام وغصنَ الزيتون تزامُناً مع الاعتداء على كنائسهم ومزاراتهم، في محاولةٍ لتحطيم التاريخ وفَرضِ ديمغرافيا جديدة.

على رغم سوداوية المشهد، وثِقلِ الفاتورة الدمَوية، يبقى للرجاء نبضٌ في جبل لبنان، يبقى للوحدة فُسحةٌ تَتجَدد سنويّاً، عبر التفاف اللبنانيين، مسلمين ومسيحين، لتكريم مريم العذراء، واستمدادهم الزيتَ منها لمصابيحهم.

أبعَد من الحجاب

«الدين في القلب، وليس بالحجاب». على حدّ تعبير صفاء، المسلِمة، التي تحرَص على المجيء من العراق لزيارة سيّدة لبنان سنوياً، للتباركِ. وبينما تضيء مع أفراد عائلتها الشموع، تقول لـ«الجمهورية» إنّ «المنطقة بأسرِها تفتقر إلى السلام، والمَشاهد الدَموية المحيطة بنا تسيء للمسلمين والمسيحيين على حدّ سواء، فالإجرام لا يَستثني أحداً». لا تُنكِر صفاء أنّ عيون بعض اللبنانيين لا تمّلُّ من التحديق إليها، وهي تقف تُصلّي أمام تمثال السيّدة العذراء».

وتشير إلى أنّه «رغم التنوّع الموجود في لبنان يَستغرب البعض، تقرُّبَنا مِن أمِّنا مريم، رغم أنّها تَعنينا أيضاً، ومنها نستمِدّ العِبَر، لذلك، عيد بشارة العذراء مريم، من شأنِه أن يقرّب المسافات بين الطائفتين، ويحصّنهما تجاه تنامي العنف، على أمل أن ينتقلَ إلى بلادنا ومختلف دوَل الأمّة العربية».

للزواج المختلط حصّة

تكريم مريم لا يقف عند مسلِمي العراق أو لبنان، فقبلَ اندلاع الحرب في سوريا، كانت تتوافد الباصات شهرياً إلى حريصا تنقل مسلِمات من إيران كمحطّات ضمن رحلات حَجّهم.

في هذا الإطار، يُثني رئيس مزار سيّدة لبنان حريصا، الأب يونان عبيد على الحضور المسلم في المزار، قائلاً: «يَؤمّ المزارَ سنوياً نحو مليون ونصف المليون زائر مِن كلّ الطوائف، ويبدو لافتاً حضور الزوّار المسلمين الذين يكنّون كلّ احترام للسيّدة العذراء، فنَراهم يَخشعون ويُصلّون ويَبتهلون ويُضيئون الشموع ويَلتقطون صوَراً تذكارية مع التمثال».

تزامُناً مع هذه المناسبة، يَلفت يونان إلى أنّ الإدارة «تحرَص على تنظيم سلسلة حلقات تجمَع فيها رجالَ دين مسيحيين ومسلمين، ليُقدّموا شهاداتهم بمكانةِ مريم في الإنجيل المقدّس والقرآن الكريم». ويضيف: «بعد مرور 107 أعوام على تأسيسه، تحَوَّل المزار منارةً روحية في الشرق والعالم، وذلك يعود إلى الدور الجوهري والحيوي لمريم في حياة المؤمنين وترسيخ إيمانهم بالإله الواحد».

ومِن بين الزوّار المسلمين مَن لا يكتفون بإضاءة الشموع، فلا يتردّدون أحياناً في الدخول إلى الكنيسة للسجود أمام تمثال السيّدة العذراء. «وين المشكلة؟» باستغراب تَسأل هتاف، معتبرةً: «أنّ المصاهَرة بين العائلات اللبنانية من الطائفتين، ساهمَت في تَفَهّمِ هذا التقارب الديني».

وتقول: «صحيح كلّ واحد على دينو الله بعِينو، ولكنّ الزواج المختلط قرّب العائلة من بعضها، أضِف إلى أنّ سِتّنا مريم قد جاء القرآن على ذكرها مراراً، ما جَعَلها أمّاً للجميع».

لماذا يُكرِّم المسلِم مريم؟

كيف لا نُكرِّم أمَّنا مريم، وقد جاء القرآن على ذِكرها 37 مرّة!». بنبرةٍ حاسمة، يدافع أمين عام اللقاء الإسلامي المسيحي الشيخ محمد النقري، عن تعلّق «المسلِم الملتزم بالسيّدة مريم»، موضِحاً في حديث لـ«الجمهورية»: «مريم هي الوحيدة التي سُمّيَت على إسمِها سورة قرآنية، تُرَكّز على حياتها، بتوليَّتِها، تعَبُّدها، فمريم نموذج الأمّ التي تَجمعنا روحياً، بالمحبّة والتضامن، والحنان، فهي مؤسسة عيشِنا المشترك، بالإضافة إلى أنّ الأحاديث النبَوية كرَّمتها، مِن هنا نَمت العلاقة المميّزة بين المسلم والسيّدة مريم». مشيراً إلى أن «ليس في الإسلام ثقافة المكان المقدّس، ولا نتقيّد بتمثال، لذا نشعر بوجود مريم في أيّ مكان».

ويَروي النقري في سياق حديثه عن تمايز طفولة مريم عن الآخرين، «فهي المرأة الوحيدة التي تكرَّسَت في خدمة الهيكل، ومِن المعروف في الإسلام المرأة لا تُكرّس في خدمة الهيكل، إلّا أنّ والدتها تاقت لأن ترزَقَ بصبي، فندرَت جنينَها لخدمة الهيكل، وبما أنّ الله رزقها ابنةً، فما كان على مريم إلّا أن تَفيَ الندر».

الشيخ النقري، الذي كان أوّلَ مَن بحثَ عن فكرة تحديد مناسبة دينية مشترَكة بين الطائفتين، يقول: «طوال محاضراتي في فرنسا، غالباً ما شدّدتُ على أنّ بوسع المسلمين والمسيحيين الاحتفال معاً، وشكّلت هذه الفكرة هاجسي الوحيد لسنوات، إلى أن سألني رئيس رابطة قدامى مدرسة سيّدة الجمهور ناجي الخوري، خلال اختتام لقاء إسلامي- مسيحي، دعَت إليه الرابطة عام 2003، «ألا يستطيع أن يصَلّي المسيحيّون والمسلمون معاً؟

فأجبتُه «ما في إلّا مريم بتِجمعنا». ومنذ ذلك الحين بدأنا العملَ جدّياً على جعلِ مناسبة عيد البشارة مشترَكة لدى الطائفتين، خصوصاً وأنّ ناجي كشفَ لي عن حلمٍ يراوده من سنوات، وهو أنّه يرى كهنةً ورهباناً وراهبات وشيوخاً وحجّات يُصَلّون معاً». ويضيف: «لأستاذ المدرسة عيد المعلّم، للوطن عيد الاستقلال، للمسلِمين والمسيحيّين أعيادُهم الخاصة، فكان لا بدّ من عيد لأمِّنا مريم».

«مريم» المحتفى بها

لا شك في ان هذه المناسبة قد أرخت أجواء من التقارب، والإرتياح بين اللبنانيين، وعبر الاعوام يزيد الوعي حول أهميتها كمحطة وطنية وتزداد الاحتفالات المشتركة بها.

في هذا الاطار يوضح رئيس مؤسسة أديان الاب فادي ضو أن جوهر الاحتفال يكمن في المحتفى بها: «25 آذار ليس توحيداً لعيد البشارة ومعانيه الدينية بين الإسلام والمسيحية، بل احتفالاً وطنيًّا بمعاني العيد المشتركة، وبما تمثل السيدة مريم العذراء من قيم روحية ومثال للإيمان.

فيظل المسيحيون يحتفلون به كجزء من عقيدتهم المسيحية، وهي بداية سر تجسد السيد المسيح من خلال مريم، ولكن مع هذه الخصوصية هناك عنصر مشترك، أن المحتفى بها هي مريم العذراء واختيارها من الله لتحمل رسالة الأمومة بشكل خاص.

فبالنسبة إلى المسيحيين هي والدة المسيح ابن الله الكلمة المتجسدة، أما بالنسبة إلى المسلمين فهي والدة النبي عيسى. ويعبّر النصان في الإنجيل والقرآن بشكل متشابه جداً عن بشارة مريم من قبل الملاك.

ويتفق النصان بأن هذا الحبل بالسيد المسيح هو نتيجة تدخل إلهي. من هنا جاءت المناسبة فسحة للاضاءة على شخصية مريم، بالإضافة إلى التقارب الكتابي المشترك لذكر البشارة في الاسلام والمسيحية.

– في القرآن: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّه يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ… (سورة آل عمران 45)

– في الإنجيل: فدَخَلَ إلَيها الملاك وقال لها: «إفَرحي، أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ». فداخَلَها لِهذا الكَلامِ اضطرابٌ شَديدٌ وسأَلَت نَفسَها ما مَعنى هذا السَّلام. فقالَ لها الـمَلاك: «لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله. فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوع. سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود، ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية. (لوقا 28/1-35)

الايمان الملتزم والمتأمل

وفي ضوء تعمقه في حوار الأديان، يلفت ضو إلى «ان مريم تُعلمنا إستقبال مشيئة الله وتطبيقها في حياتنا، وحضور مريم المعدود في الانجيل يؤكّد لنا ان الايمان ليس بكثرة الكلام أو المظاهر الخارجية، ولكن في الإلتزام بكلام الله وتطبيقه في حياتنا رغم كل التحديات والصعاب. إذ يمكننا القول بأنّ مريم هي نموذج الايمان المتأمل والملتزم».

في الختام، وسط التطرف المتنامي، والجبهات الاقليمية المتعددة، تبقى بشارة مريم جبهة وطنية في مواجهة التطرف والمخاطر المحدقة بلبنان.