«لو تفعلون بنسبة فقط 10% ممّا تتكلّمون لكنتم في طليعة بلدان العالم قاطبة تطوراً وتقدماً ورخاءً وازدهاراً».
هذا الكلام أطلقته سيّدة أجنبية تمارس مهمتها ممثلة بلدها في لبنان. فلاحظت «أنتم شعب يحكي كثيراً ويحب الحكي الكثير»، وقد بدا لي من خلال تجربتي في ما بينكم أنَّ السياسيين والمسؤولين الذين يتولون شؤونكم هم، بدورهم، مجموعة من المتكلّمين من دون انقطاع. ما هذا الدفق في الحكي؟ ألم يصل الى أذهان قياداتكم «الثرثارة» أن من يتكلم كثيراً يخطئ كثيراً… ثم يجد نفسه مضطراً لتصحيح الخطأ أو لــ«تبريره»، فيضيف الى الثرثرة مزيداً منها، وبالتالي يراكم الخطأ بالخطأ!
وأطلعتني الديبلوماسية الاجنبية على مجموعة من المقتطفات التي يعدها لها معاونوها في ما يبدو أنه تقرير (يومي) عمّا يدور في البلد… ثم عرضت عليّ تقريراً بخلاصة تقارير يومية طوال شهر من الزمن، لتخلص الى القول: هنا 147 تصريحاً وبياناً و…. بينهما كلام شبه يومي لهذا المسؤول أو ذاك، ولا أدّعي أن هذا كل ما قيل في ذلك الشهر، إنما النماذج المقتبسة اقتُصرت على المسؤولين والقياديين الكبار وبعض الناطقين بأسمائهم وقد قسّمتها الى الأصناف الاتية:
الصنف الأوّل: الكلام المباشر الذي لا تشاطر أو تذاكٍ فيه، والذي تقتضيه مناسبة ما أو حدث ما طارئ.
الثاني: الكلام الذي يوجه الى فئة لا علاقة لها بأي أزمة أو قضية أو مسألة طارئة أو مزمنة… ولكن المتكلّم يتحدث الى تلك الفئة أو الجهة أو الهيئة إنما يكون قاصداً توجيه رسالة الى خصم أو منافس أو حتى حليف. مثل على ذلك القيادي أو المسؤول أو رئيس الحزب (أو …) الذي يتوجه الى هذا المقر غير الزمني أو ذاك… بإدّعاء تقديم التهنئة مثلاً، وبعد انتهاء الاجتماع يكون كلامُ بعيدٌ جداً عن الغاية المعلنة عن الزيارة… وكثيراً ما يجري استغلال منابر المرجعيات غير الزمنية لتوجيه الرسائل الحادة.
الثالث الكلام الذي يُدلى به في المناسبات الاجتماعية خصوصاً الغدوات والعشوات الحزبية التي تتحول الى وسائط لتوجيه الرسائل المحددة الموجهة أو متعددة الوجهات(…).
وأضافت الديبلوماسية تقول: يا سيدي أنا استغرب جداً ألاّ يعطي هؤلاء المشار اليهم في هذا البحث أنفسهم استراحة، أقله ليراجعوا الموقف، أو ليريحوا ويستريحوا، أو ليصحّحوا خطأ هنا، وينقحوا عبارة هناك…
ألا يتعب هؤلاء؟ ألا يدركون أنّ التجييش الذي يلجأ اليه معظمهم هو بمثابة السم بطيء المفعول؟!
واعترف بأنني عييت عن رد الجواب. فأنا أيضاً يستفزني هذا التمادي في الثرثرة، ويستثير غضبي أحياناً، أما بعض المقابلات التلفزيونية فتسقط فيها الثرثرة (رغم كثرتها) أمام المشهد البانورامي «الرائع» الذي يطل به علينا بعض «المتفوقين» في الفصاحة والبلاغة…