IMLebanon

حسابات الغوطة المتغيّرة

 

أساء هنري فورد، السفير الأميركي السابق في دمشق، الحكم على الأمور الراهنة في سوريا عندما حضّ (مواربة) أهل الغوطة الشرقية على الاستسلام باعتبار أن أحداً لن يهبّ إلى مساعدتهم، وتجنيبهم مصير نظرائهم في شرق حلب!

 

وربّما يكون مأخوذاً، مثلنا بطغيان العربدة الاستباحية على أداء الآلة الحربية لجماعة «المحور» الروسي – الإيراني وعدم تورّع هؤلاء عن الفتك الضاري بكل قيمة بشرية وأخلاقية.. وافتراضهم بأن الفرصة سانحة لإكمال قضم وهضم مناطق المعارضة وبيئتها طالما أنّ مطوّلات الإدانة لا تتوازن مع ثقل الصواريخ وهدير الدبابات، وطالما أنّ المعادلة الراسية (والظالمة) هي أنّ كمشة من البارود توازي أطناناً من الحق! وطالما أنّ «المجتمع الدولي» عاجز بقرار ذاتي، عن أنسنة مصالحه السياسية وعن التدخل لوقف مذبحة يرتكبها وحوش في حق مدنيّين، في الربع الأول من الألفية الثالثة.. وعلى الهواء مباشرةً!

 

لكن في هذه الصورة بعض مقوّمات الاستدراك والجدل.. وهو ما لم يلحظه سفير باراك أوباما السابق في دمشق. أو ربما، على ما يتّهمه بعض الثقات في المعارضة، يلحظ وينكر! ويعرف ويدّعي العكس، طالما أنّه شاهد حصيف على خطايا ارتكبتها الإدارة الأوبامية في حق سوريا وأهلها تبعاً لسياستها «الإيرانية» وحساباتها الانتهازية، وغدرها بمنظومة «حقوق الإنسان» التي لطالما كانت أحد الأعمدة الحاملة لآلية صنع القرار الخارجي، في الدول الديموقراطية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية! مع التشديد على الاستدراك المتعلّق بإسرائيل وممارساتها وطبيعتها أصلاً!

 

ما تُفصح عنه المواقف الأميركية والأوروبية في اليومين الماضيين، يفيد بأنّ الدنيا ليست على تلك القتامةِ والسواد والعَدَمية! وأن الفظاعات المُسجّلة في تفاصيل نكبة الغوطة الشرقية وأهلها «حرّكت» شيئاً ما عند القادرين على لجم ما يحصل.. ودفعت إلى بعض المستجدات، والتهديدات! وأن ذلك وحده هو الذي «أقنع» موسكو بكبح جماح آلتها التدميرية والضغط على حليفها الإيراني للقبول بالهدنة المؤقّتة.

 

لا أحد يتوهّم بأنّ الأميركيين وقوى التحالف سينخرطون في مواجهة مباشرة مع الروس كرمى لعيون الضحايا السوريين! لكن بين ذلك، واستمرار التطنيش على تفلّت موسكو من التزاماتها الخاصة بـ«البحث عن تسوية سياسية» وعودتها إلى اعتماد خيار «الحسم العسكري»، وإعطائها إشارات خطيرة على ذلك، ثم اعتمادها آليات بطش قروسطية «ردّاً على المسّ بـ«هيبتها» العسكرية والسياسية».. بين الأمرَين، هناك سبيل ثالث عنوانه «الشرعي» الراهن هو فتح ملف مواصلة بقايا السلطة الأسدية استخدام الأسلحة الكيماوية في أكثر من موقع! والتلويح مجدداً بذلك الخيار من خلال ذهاب القيادة الروسية نفسها وبعض الأصوات الأسدية إلى اتهام بعض المعارضة بامتلاك أسلحة كيماوية!

 

وذلك الاتهام، هو في العادة، مقدّمة «لا بدّ منها» لاستخدام ذلك السلاح مجدداً، ثمّ رمي التهمة على الضحايا! وهذا أداء قد يبلف بعض الغاشين، لكنّه لا يمر عند الذين يعرفون كل شاردة وواردة في هذه الخريطة المشتعلة! وأول هؤلاء بطبيعة الحال، الأميركيون وحلفاؤهم!

 

تحت سقف المقاييس التي وضع هؤلاء تحتها خطاً أحمر، تدخل اعتبارات أخرى، منها ضرورة لجم الجموح الروسي «المستجد»! وإعادة التذكير بالتفاهم الذي قضى بوضع الغوطة الشرقية من ضمن المناطق الآمنة الأربع! ثمّ التذكير أكثر، بأنّ «الموضوع» الإيراني في سوريا هو عند الإدارة الأميركية الراهنة، غير ما كان عليه عند الإدارة الأوبامية السابقة! وإن سقوط الضاحية الدمشقية المنكوبة سيعني إضافة المزيد على «نفوذ» طهران وليس العكس.. مثلما سيعني في المحصلة العامة ابتعاد خيار «الحل السياسي» أكثر مما هو بعيد أصلاً في أجندة الإيرانيين والأسديين!

 

.. ويقول ثقات وعارفون ومطّلعون، إنّ الأميركيين حرصوا في الأيام القليلة الماضية على تمرير معطيات تفيد باكتمال مقوّمات قرار بمعاقبة الأسد على تكرار استخدامه السلاح الكيماوي. وعلى مواصلته (مع الإيرانيين) التملّص من موجبات «الحل السياسي»! والإمعان في ارتكاب «جرائم ضد البشرية»! وإن لائحة المواقع التي ستُستهدف قد أُوصلت بالفعل إلى الروس.. وإن التنفيذ حتميّ ما لم يتم الالتزام بقرار مجلس الأمن الأخير وبدء سريان قرار الهدنة في الغوطة الشرقية!

 

.. صعب الافتراض بأنّ هذه المعطيات غابت عن ذهن سفير أوباما السابق في دمشق مستر فورد! وسهل في المقابل الافتراض، بأنّه آثر ويؤثر النكران كي لا يُدان معلّمه السابق! وكي لا يُقال بأنّ دونالد ترامب نسخة مُحدّثة عن سلفه! وإنه في النتيجة لم يغيّر شيئاً في سياسة بلاده «السورية» و«الإيرانية»! أو إن «خطوطه الحمر» يمكن تخطيها من دون تبعات وأثمان!

 

هل يعني ذلك، أنّ الهجمة الراهنة على الغوطة انكسرت وأنّ مصيرها لن يكون مثيلاً لمصير شرق حلب؟! يمكن افتراض ذلك.. أقلّه في المرحلة الراهنة!

 

علي نون