رغم أن لبنان اعتاد حكومات تصريف الأعمال، كما الفراغ الرئاسي، إلا أنه في كل مرة، يُنتج أعرافاً جديدة وبدعاً سياسية، لم يسبق أن شهدها. اليوم، مع دخول الحكومة مرحلة تصريف الأعمال الشهر الخامس، تفتق أفرقاء التسوية الرئاسية عن واقع سياسي يزيد الوضع الداخلي تأزماً. لعل أفضل وصف لما شهدناه في الأسابيع والأيام الأخيرة، ما وصفه أحد السياسين ممن رافقوا مراحل تأليف الحكومات السابقة «بأنه فيدرالية أفرقاء التسوية».
فما إن كُلِّف الحريري رسمياً تأليف حكومته الثانية بعد استقالة الأولى، حتى بدأ أركان التسوية الرئاسية يتعاملون مع الملفات السياسة الداخلية والخارجية، المالية والاقتصادية والحياتية، على قاعدة أن لكل طرف منهم سياسته الخاصة بمعزل عن الحكومة والسياسة العامة لما بقي من الدولة. لا بيان وزارياً يجمعهم، ولا خطوط عريضة لإدارة الدولة، ولا حتى اجتماعات تنسيقية يقوم بها الرئيس المكلف. لم يسبق أن مرت حكومة تصريف أعمال، بمثل ما تمرّ به الحكومة الحالية، لا حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، ولا حتى حكومة الرئيس تمام سلام، رغم الفراغ الرئاسي آنذاك، وإشكالات سياسية كانت تقع بين القوى المنضوية تحت جناحيها.
اليوم، مع وجود رئيس للجمهورية ومجلس نواب منتخب شرعاً، ورئيس حكومة تصريف أعمال، يزداد الوضع خطورة وانهياراً داخلياً، وكل وزير ووزارة وجهاز أمني يتصرف وكأن لديه استقلالية تامة عن السلطة المركزية، مهما كان اسمها أو شكلها. وصار كل فريق يمارس صلاحياته في إدارة ذاتية مستقلة، حتى وصلنا إلى المشهد الأخير في مجلس النواب، فبات كل طرف يطرح الملفات على قاعدة أنها تخصّ فريقاً معيناً، ولا تعني الفريق الآخر.
يكفي تعداد ما حصل أخيراً، منذ الضجة حول حاكم مصرف لبنان والوضع النقدي، وقبله ملف الإسكان الفضيحة، وملف التجنيس الفاضح أكثر فأكثر، إلى انقسام الأفرقاء السياسيين حول القضايا الأساسية، كالنفايات والطاقة الكهربائية، وأخيراً ملف الدواء، وتقاسم القوى السياسية بنود تشريع الضرورة كي يأتي متلائماً مع أجندات ومصالح مناطقية ومحسوبيات. وحده ملف المطار يصلح لأن يكون عنواناً لهذا الانهيار المتسارع، منذ قضية تلزيم المنطقة الحرة، إلى استهداف التيار الوطني لوزير الأشغال، وتوجيه اتهامات إليه، وتسارع الأحداث الأمنية وتصارع الأجهزة فيه. وهل يمكن تجاهل الخلاف الصامت أحياناً والعلني أحياناً أخرى، بين قيادة الجيش ووزارة الدفاع، وما حصل في وزارة التربية والبيئة، وكأن الوزارتين تقعان في بلدين منفصلين، وكل واحدة تسحب سفيرها من البلد الآخر؟ من يسأل ماذا يحصل في الوزارات، ولمن يقدم كل وزير جردة حساباته، للحكومة المستقيلة أم لرئيس حزبه وتياره؟
في السياسة الخارجية، يمكن الانطلاق من كلمة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وتحرك وزير الخارجية جبران باسيل في الولايات المتحدة، حيث ركز عون على التوطين والنازحين السوريين، في شكل يختلف كلياً عن خطاب مضمر لرئاسة الحكومة، التي تتعامل مع اللاجئين في صورة مغايرة تماماً، وهي التي غطت موضوع إحصائهم في لبنان. في حين أن كلمة رئيس الجمهورية تحدثت عن واقع الفلسطينيين في شكل يتماهى مع كل الملاحظات التي أُعطيت حول تعامل لبنان مع هذا الملف. وكذلك الأمر بالنسبة إلى النازحين السوريين الذين يتخذ رئيس الحكومة منهم موقفاً غير حاد، بخلاف ما هو عليه موقف عون، وإن كان الرئيسان لا يحولانه موضوعاً خلافياً ظاهراً. والمفارقة أن «القوى والأحزاب المسيحية» تتفق مع رئيس الجمهورية في هذين الملفين، رغم ما يفرقهما من خلافات حادة في الشؤون الداخلية.
في السياسة الخارجية أيضاً، لا تتفق نزعة عون وباسيل نحو روسيا، مع توجه رئيس الحكومة والقوى السياسية المنضوية في الحكومة، أي القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي. وهو يزيد من وتيرة تجاهل واشنطن في ظل الانتقادات التي يوجهها باسيل إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب (كالرد على ترامب بعد تجاهل الأخير ذكر لبنان بين الدول المضيفة للنازحين السوريين)، والتقرب من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كغطاء غربي، من فرنسا الباحثة باستمرار عن دور ما في الشرق الأوسط. ثمة تحولات في السياسة الخارجية.
لا يقطع الحريري حكماً علاقاته مع روسيا، لكن لا التباس بعلاقته مع واشنطن والدول الغربية، في ملفات كثيرة. تسانده في ذلك داخلياً «القوى المسيحية» الحليفة له، من دون أي مواربة، بعدما كثرت الانتقادات لتوجه الحكم نحو روسيا، ورفع اللهجة ضد الأميركيين.
تتجه سياسة العهد الخارجية نحو تقاطعات، لا تجمع عليها كل القوى السياسية، ويمارس وزراؤه، ووزراء القوى السياسية الأخرى، سياسات داخلية بالمفرق، لا رابط بينها، غير أن كل وزير أو حزب أو تيار، يحصّن نفسه ويحصّل لفريقه مكاسب في الوقت الضائع. أما كلفة ما يترتب على لبنان بسبب التجاذبات واللعب بالعامل النقدي والاقتصادي والأمني، كما حصل في المطار، فهذا لا يعني القوى السياسية، ما دامت تراكم في رصيدها الخاص. المشكلة أنه كان يمكن أن يفهم هذا الأداء لو أننا في مرحلة تسبق الانتخابات النيابية، وتريد تجيير إنجازاتها الخاصة في الصناديق. أما اليوم، والغليان الإقليمي يتفاقم، والعقوبات الأميركية تزداد حدة، فلا شيء يبرر تقاسم الدولة وملفاتها، والانهيار الحاد تحت سقف الجمهورية والرئيس القوي والمجلس النيابي والحكومة ولو كانت لتصريف الأعمال. لأننا ببساطة لم نعد في زمن الحرب ومناطق الحكم الذاتي.