لم يعُد خيار تلافي سلوك المسار الانحداري متوافراً، في حين كان مُمكناً منذ أسابيع، لو لاقت التحذيرات العلميّة والواقعيّة، الداخلية والخارجية، آذاناً صاغية لدى المعنيين. السؤال الآن: هل يُمكن إيقاف الإنهيار عند حدٍّ معيّن؟ الجواب الوحيد الذي تفرضه المرحلة، والذي يبدّد مخاوف اللبنانيين ويرضي المجتمع الدولي الذي يُعوّل لبنان على دعمه، هو: «حكومة ثقة» مؤلفة من إختصاصيين حياديين. لكن هذه الحكومة ليست «حكومة ثقة» بالنسبة إلى السلطة التي ما زالت تعتمد الطريقة نفسها في عملية تأليف الحكومة، وتبحث عن «ضمانات» للإستمرار في الإمساك بالحُكم والمحافظة على امتيازاتها.
منذ أشهر تتعالى الأصوات المحذّرة من الوضع المالي – الإقتصادي – المعيشي. المعطيات التي كانت تُبرز، وُضعت في إطار الشائعات وإثارة البلبلة وتعريض الوضع المالي للخطر، وصولاً الى تلويح رئاسة الجمهورية برفع الدعاوى القضائية ضدّ من يثيرها. وعلى رغم تجلّي الأزمة الآن، بإنفجار الشارع اللبناني الواحد وبالقيود المصرفية، لا يزال بعض أطراف السلطة يعتبر أنّ ما يجري استهداف لعهد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل، أو لـ»حزب الله».
انطلاقاً من الشعور بالإستهداف من جهات سياسية داخلية وخارجية، يبحث العهد و»الحزب» عن ضمانات، الأمر الذي يؤخّر مسار تأليف الحكومة. وفي حين يبرّر فريق رئيس الجمهورية التأخير في تحديد موعد الإستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس للحكومة، بأنّ عون يجري المشاورات اللازمة لتسهيل التكليف والتأليف، ويسعى «حزب الله» الى «حكومة ثقة»، إذ إنّه يستشفّ من طرح حكومة تكنوقراط «محض» خطوة في اتجاه استهدافه. يقول وزير سابق خرج من السلطة في 1990: «هناك وضع ملحّ في البلد، الناس في الشوارع، البلد مديون وهناك يد خارجية موضوعة على «خوانيق» لبنان، والدول تراقبنا… والمسؤولون يقولون: هذه صلاحياتنا أو لسنا مجبرين ولدينا شروط ومطالب شخصية، ونريد الإطمئنان أولاً إلى الصيغة الحكومية. وهذا يدلّ إمّا إلى عدم وعي لخطورة الوضع، وإمّا الى اتخاذ الخيار بترك البلد ينهار».
حكومة الثقة المؤلفة من إختصاصيين حياديين تُعتبر «الخيار الأسوأ» بالنسبة الى «حزب الله»، فيما يعتبر حكومة الوحدة الوطنية برئاسة سعد الحريري الصيغة الأفضل، خصوصاً التي يملك فيها مع حلفائه الغالبية الوزارية على غرار الحكومة المستقيلة، إذ إنّها لا تشكّل خطراً عليه، وتؤمّن له غطاءً داخلياً وخارجياً.
وانطلاقاً من موقع القوة الذي وصل اليه «الحزب»، والذي أشار إليه الأمين العام السيد حسن نصرالله في خطاباته الأخيرة، من «السذاجة» التوقع أنّه سيتخلّى عن نفوذه في الدولة بإرادته وسريعاً ومن دون ضمانات. وفي حين أنّ بإمكانه وحلفائه وفريق رئيس الجمهورية الإتيان بحكومة أكثرية، لا يحبّذ «الحزب» اتخاذ هذا الخيار، وإلّا لكان اعتمده فوراً بعد الانتخابات النيابية في أيار 2018 ولم يتأخّر تأليف حكومة «الى العمل» نحو تسعة أشهر. وعلى رغم تأييد بعض الأطراف حكومة كهذه، ومنهم من ينتمي الى فريق رئيس الجمهورية، بحجة فشل التفاهم مع بقية الشركاء في التسوية، الأمر الذي أدّى إلى الشلل لثلاث سنوات، فيما أنّ حكومة أكثرية يُمكنها الإنتاج واتخاذ القرارات، يعلم «الحزب» أنّ هذه الحكومة ستكون حكومة مواجهة، داخلياً وخارجياً، وستُغرق لبنان في العقوبات الأميركية وتحرمه أيّ دعم خليجي أو غربي.
هذه المقاربة أصبحت من الماضي ولا تواكب التطورات والمجريات بعد «انتفاضة 17 تشرين الأول» على ما يقول معنيون بتأليف الحكومة. ويعتبرون أنّ أيّ حكومة يسيطر عليها «حزب الله» مباشرة أو مواربة، ستجعل الإقتصاد اللبناني شبيهاً بإقتصاد إيران، إذ إنّ من أبرز الأسباب التي أوصلت البلد إلى الإنهيار، الفشل في اعتماد سياسة «النأي بالنفس» ومجاهرة «حزب الله» بإرتباطه بالمحور الإيراني، فضلاً عن التعرّض لدول خليجية وعربية وغربية.
على الصعيد الداخلي، يستغرب كثيرون عدم استيعاب النقلة التغييرية التي فرضتها الانتفاضة الشعبية المستمرة. وتقول مصادر معنية، إنّ «تأليف الحكومة مرتبط باللحظة الحالية، ولا يُمكن أن يجري وفق منطق المحاصصة القديم وإدراج ديباجات في بيان وزاري في ما بعد لتأكيد وجهة نظر معيّنة». وإذ تشير إلى «أننا دخلنا في نفق خطير»، تؤكّد «عدم إمكانية الإستمرار في إعتماد السياسة والحكومات نفسها، الأمر الذي سيوصل حكماً الى الانهيار».
وتشدّد المصادر على «أنه لم يعد بإستطاعة السلطة تصوير الانتفاضة على أنّها مؤامرة أو استهداف أو «نكاية» بوزير. فحتى لو صحّ وجود «مؤامرة»، هناك وضع شعبي وواقع إقتصادي يفرضان تحوّلاً فعلياً». وتختصر خريطة الطريق لمواكبة هذه المرحلة بخطوتين أساسيتين، لا مهرب منهما، مهما كانت نتائج مشاورات أطراف الحكومة المستقيلة، وهما:
– الإبتعاد عن الملفات السياسية الخلافية.
– تأليف حكومة من إختصاصيين غير تابعين للسياسيين لمعالجة الأزمة الإقتصادية، وينحصر بيانها الوزاري بـ»خطة عمل» مالية – إقتصادية، لكي تحظى بثقة الشعب والخارج.